كتب : لؤي هشام
هنا القاهرة.. هنا حيث الأحياء القديمة شاهدة على من مروا منها يوما.. هنا مئاذنها تحكي عن مآثر السابقين.. هنا حيث يروي النيل المقهورين وقاهريهم معا.. هنا تختلط في أنوفكم رائحة الهواء الملوث بعرق الكادحين، رائحة قد لا تكون جميلة ولكنها مميزة في المدينة.
هنا ترتفع الأبراج الشاهقة وإلى جوارها عشش الفقراء.. هنا لا يظهر السحر إلا بالليل في مدينة لا تعرف النوم.. هنا قاهرة المعز حيث صنعت الحضارات المتتالية والمختلفة تنوعا فريدا بين أفرادها.. هنا حيث المعمار التاريخي والمعالم الحديثة.. هنا موطن التناقض.
هنا المدينة التي لا تعرف إلا لونين.. هنا الأهلي والزمالك حيث لا يعلو صوت فوق صوت الدربي.
القصة بدأت قبل ما يزيد عن قرن من الزمان، وكعادة المحتلين دائما ما تركوا أثرا منهم قبل الرحيل، بدأت كلعبة في القاهرة وتحولت إلى ما هو أكثر من ذلك مع مرور الوقت.
تعود حكاية القاهرة إلى مئات السنين حين قرر جوهر الصقلي وضع حجر أساس تلك المدينة ولكن قصتنا تدور إلى ما هو بعد ذلك، وتحديدا عام 1895.
في أحيائها التي تتعدى السبعين حيا كانت كرة القدم دائما حاضرة، مدارسها كانت أول من شهد ركل تلك الكرة بين طلابها، ولاحقا ظلت مراكز الشباب هي الوجهة الأولى للشباب المتيم.
وبطبيعة الحال ولأنها كانت العاصمة فقد شهدت دائما على الكثير والكثير من لحظات الفخر والانتصار ومثلها من الانكسارات.
توالى ظهور الأندية التي ضمت القاهرة أقدمها في مصر ولكن بداية الفكرة ربما لا يعرف الكثيرون من أين جاءت. الحقيقة أن البذرة أتت من شاب يافع صنع منه الشغف اسما خالدا.
محمد أفندي ناشد.. هنا كانت الخطوة الأولى
"الشاب القوى المفتول العضل المتوسط القامة متناسق الأعضاء فنان سريع الحركة قوي التصويب و يجيد أكثر من مركز" هكذا وصفه الناقد الرياضي حسن المستكاوي في كتاب "النادي الأهلي".
في ميدان الرميلة ذاك الميدان الفسيح الذي كان شاهدا على الكثير من الأحداث التي مرت عبر تاريخ مصر القديم والحديث بعدما أصبح اسمه ميدان القلعة، أقيمت أول مباراة لكرة القدم لفريق مصري، عٌرف هذا الفريق باسم "التيم المصري" أو فرقة مصر.
قبلها كان المصريون يشاهدون جنود الاحتلال الإنجليزي وهم يلعبون كرة القدم داخل ثكناتهم وانتشرت فرق الأحياء والمدارس، ولكن "التيم المصري" أو ما عُرف لاحقا باسم فرقة "ناشد أفندي" كان أول فريق شبه رسمي في كل أرجاء مصر، وتحديدا عام 1895 حينما قرر محمد أفندي ناشد تجميع فريق من المصريين لمواجهة أحد فرق الجيش البريطاني.
كان محمد ناشد موظفا إداريا بورش معسكرات الجيش الإنجليزي فى العباسية وقرر تكوين الفريق من أصدقائه الذين كان من بينهم أحمد رفعت ومحمد خيرى وإخوان جبريل، وشاركوا في المباراة التي انتهت بانتصار الفريق المصري على فريق الأورانس.
ونجاح الفريق المصري في تحقيق الفوز على نظيره الأورانس الإنجليزي، أحد أقوى الفرق الإنجليزية، بهدفين نظيفين سجلهما ناشد وأحمد رفعت لفت أنظار الصحافة المصرية إلى "فرقة ناشد" وقتها وإلى كرة القدم بعد ذلك.
ونقل حسن المستكاوي في كتاب "النادي الأهلي" قول الصحف وقتها: "يحق للمصريين أن يفخروا بالتيم المصري الذي هزم المنتخبات البريطانية في العاصمة، في لعبة كرة القدم لعبة الإنجليز المفضلة".
"ومن واجب كل مصري أن يفخر برئيس الفريق محمد ناشد أفندي الذي يفضل أن يلعب في الدفاع حيث يستطيع أن يستخلص الكرة بمهارة عجيبة من بين أربعة لاعبين ويمررها لإخوانه المصريين في مكان حساس للغاية، كما أنه يجيد التصويب مسجلا الاهداف من مسافة 30 ياردة".
البعض نظر إلى تلك المباراة تاريخيا باعتبارها من أوائل سبل مقاومة الإنجليز في ذلك الوقت ولكن الحقيقة هي أنها ربما حملت ذلك الطابع لاحقا، ولكن في تلك الفترة كان يتعامل البعض مع كرة القدم باعتبارها أحد وسائل المحتل للتأثير في محتليهم.
بل أن قرار محمد زكي باشا وزير المعارف عام 1892 بإدخال الرياضة ومن بينها كرة القدم إلى المدارس اعتبره عدد ليس بقليل قرارا منحازا لسلطة المستعمر البريطاني ولكنه في الواقع أحدث تحولا كبيرا في مسار كرة القدم بمصر عامة والقاهرة خاصة.
بعد تلك المباراة بعام أسندت مهمة الإشراف على تنظيم تلك المباريات إلى محمد زغلول باشا وكيل وزارة المواصلات، وفي عام 1900 ظهرت فرق المدارس كفرق السعيدية والتوفيقية والخديوية.
مظاهر البهجة والفرحة كانت تنتشر بين المصريين الحاضرين لتلك المباريات أمام الفرق الإنجليزية بعد كل مباراة، وإن اعتبرها البعض متنفسا للمصريين أمام محتليهم واعتبرها البعض الآخر وسيلة المقاومة المتاحة أمام قوة عظمى سرحت الجيش المصري ومنعت التجمعات في نفس عام انتصار ناشد أفندي ورفاقه.
ولكن البداية الحقيقية لكرة القدم في مصر - كما يرى الناقد الرياضي حسن المستكاوي - جاءت مع دخول النشاط الكروي إلى النادي الأهلي عام 1909 ثم حين تأسس فريق الزمالك بعدها بعامين.
أسماء مثل حسين فوزي، حسين حجازي، إبراهيم عثمان، محمد بكري، سليمان فائق، حسن محمد، أحمد فؤاد، حسين منصور، إبراهيم فهمي، فؤاد درويش، وعبد الفتاح طاهر كونت أول فريق للنادي الأهلي.
لم يكن الأهلي هو النادي الأقدم في القاهرة فقد سبقه تأسيس نادي السكة الحديد عام 1903 ولكنه كان لمجموعة من المهندسين الأجانب الذين كانوا يعملون بالورش في حي شبرا، أما أول نادي مصر بحت فقد كان الأولمبي بالإسكندرية تحت اسم النجمة الحمراء عام 1905.
لذا فقد جاءت شهرة الأهلي من كونه أول نادي مصري بحت في العاصمة، وبطبيعة الحال فإن تأثير الأحداث في العاصمة مغاير لأي مدينة أخرى كونها المحطة المركزية للسلطات.
المسابقة الأولى
عرفت مصر أول مسابقة للكأس عام 1913 تحت اسم "كأس الأمبر زيالي" - نسبة إلى اسم الصحيفة التي أطلقتها - ولكنها في واقع الأمر كانت تتبع للاتحاد المختلط المسؤول عن نشاط كرة القدم والذي كان يرأسه اليوناني أنجلو بولانكي.
تمردت الأندية المصرية بعد ذلك على هذا الاتحاد وقررت مقاطعة مبارياته ليصدر أحمد حشمت باشا وزير المعارف وقتها كأسا باسمه ليشارك فيها طلبة المدارس العليا وتعوضهم عن مقاطعة مباريات الاتحاد المختلط.
فازت مدرسة الحقوق بأول بطولة عام 1914 وظلت صاحبة النصيب الأكبر حتى أوائل الثلاثينات حين ظهرت فرق أخرى مثل مدرسة الهندسة ومدرسة التجارة العليا.
حافظت تلك البطولة على شعبيتها ولكن في عام 1916 ومع تأسيس الاتحاد المصري الإنجليزي لكرة القدم ظهرت الكأس السلطانية المهداة من السلطان حسين والتي كان يلعب بها أندية مصرية إلى جانب الأندية الإنجليزية.
دفع هذا القرار الأهلي في بادئ الأمر لرفض المشاركة بالبطولة تاركا الزمالك الفريق المصري الوحيد في البطولة ولكنه عاد للمشاركة بعدها بعامين باعتبارها فرصة لإظهار قدرات الفرق المصرية أمام نظيرتها المحتلة.
كما تواجدت بطولات أخرى بعد ذلك مثل كأس الأمير فاروق ودرع الأمير طوسون.
وتأسس أول منتخب مصري في أبريل في نفس العام، ثم في عام 1921 تأسس الاتحاد المصري - وأعضائه جميعا من المصريين - برئاسة جعفر والي باشا وبعدها بعامين انضم للاتحاد الدولي لكرة القدم كأول دولة عربية وإفريقية تنضم للفيفا.
ملاعب القاهرة
ظلت أحياء القاهرة العريقة كالسيدة زينب وشبرا والعباسية وعابدين وجمالية ومصر القديمة شاهدة على الكثير والكثير من المباريات التي أقيمت في مناطقها.
ولكن ظل ملعب الجزيرة بالنادي الأهلي هو أهم ملاعب العاصمة في ذلك التوقيت نظرا لإقامة مباريات الفرق المصرية أمام نظيرتها الإنجليزية عليه في ذلك الوقت، إلى جانب مباريات المنتخب المصري بعد ذلك كما حدث في تصفيات مونديال 1934.
تحول ملعب الجزيرة بعد ذلك إلى اسم مختار التتش أحد رموز النادي الأهلي، ولكن بعدها بأعوام عديدة تأسس استاد القاهرة الدولي عام 1958.
ولا يعد استاد القاهرة أقدم ملاعب العاصمة ولكنه ظل أهمها على مدار التاريخ نظرا لكونه مسرح مباريات المنتخب الوطني بجانب ناديي الأهلي والزمالك، وقد كان شاهدا على الكثير من اللحظات التاريخية.
تواجد في القاهرة العديد من الملاعب الأخرى مثل السكة الحديد والمقاولون العرب والكلية الحربية، ولكن أقدم الملاعب في مصر على الإطلاق كان استاد الإسكندرية والذي تأسس عام 1929.
دربي القاهرة
لا صوت يعلو في العاصمة فوق الصوت الدربي، المدينة التي تنقسم إلى اللونين الأبيض والأحمر في ذلك اليوم ظلت شاهدة على لحظات عديدة من الإثارة والندية بين الفريقين.
المنافسة بينهما لم تأت لاختلاف سبب تأسيسهما تاريخيا وترسيخ ذلك في أذهان جماهير كلا الفريقين فقط وإنما بطبيعة الحال للمنافسة المحتدمة التي ظلت مستمرة بينهما عبر التاريخ على كافة البطولات.
أقيمت أول مباراة بين الفريقين في التاسع من فبراير 1917 وقد كانت مباراة ودية حقق فيها الأهلي الانتصار بهدف نظيف، وكان حسين حجازي هو أول نجوم مباريات الدربي حينما كان في صفوف الأهلي، وصنع الشاب القادم من حي الحسين اسما لواحد من أهم لاعبي العاصمة ومصر عامة.
وأضاف حجازي بعدا آخر من العداوة بين الفريقين بانتقاله إلى صفوف الزمالك عام 1923 بعد 8 سنوات بين جدران النادي الأهلي كأول من يفعل ذلك، ثم عاد للأهلي 1928 وقضى موسمين قبل أن يرحل مجددا للقلعة البيضاء ويعتزل في صفوفه.
في أول مباراة بين الفريقين لعب "محمود مرعي، طه فرغلي، محمد السيد، محمود بسيوني، علي الحساني، أحمد قدري، حسين فوزي، أحمد خلوصي، يوسف محمد، كامل عبد ربه، نيكولا إيركيجي" للزمالك.
فيما لعب للأهلي "حسين منصور، سيد المهدي، يوسف وهبي، عباس صفوت، حسنين محمد "زوبة"، رياض شوق، عبد الفتاح طاهر، حسن علي علوبة، حسين حجازي، محمود شكري، عبد الحميد محرم".
ربما لن تعرف من بين تلك الأسماء سوى حسين حجازي. وقد كان جميعهم من طلبة المدارس العليا في ذلك التوقيت، ثم ساعد نجاح كلا الفريقين بعد ذلك في تحقيق البطولات على ترسيخ شعبيتهما بين الجماهير.
يعد عبد الكريم صقر هو هداف مباريات الدربي عبر تاريخ - بما يتضمن المباريات الودية - بتسجيله 19 هدفا (10 للاهلي و9 للزمالك) فيما يحل مصطفى كامل طه ثانيا بـ17 هدفا (12 للزمالك و5 للأهلي) ثم مختار التتش ومحمد أبو تريكة برصيد 13 هدفا، وهما هدافو الدربي للمسجلين من فريق واحد فقط.
دربي القاهرة وعدواة امتدت للشغب
شهدت مباريات الدربي أول حادثة شغب على الإطلاق في ربع نهائي كأس مصر موسم 1928-1929، سجل الأهلي وقتها هدفا في الدقيقة 80 ما دفع بعض الجماهير للاعتراض، واشتبك أحد لاعبي الأحمر مع الجماهير التي نزلت إلى أرض الملعب ليتم إلغاء اللقاء.
بعدها بما يقرب من 40 عاما كان الفلسطيني مروان كنفاني حارس الأهلي بطلا لواقعة أخرى حينما رفض استكمال اللعب بعد هدف الزمالك الثاني في الدقيقة 69 لتحدث جماهير الأهلي شغبا كبيرا بعد ذلك وتُلغى المباراة.
وكرر كنفاني الواقعة موسم 71-72 بعدما رفض استكمال اللعب أيضا عندما كانت النتيجة تشير إلى تقدم الزمالك بهدفين مقابل هدف ليُلغى اللقاء في الدقيقة 65 هذه المرة.
"الدربي هو قصة صراع من القومية والطبقية يعود إلى ما قبل 100 عام" هكذا وصفت صحيفة "جارديان" الدربي يوما ما.. قد يكون دربي العاصمة فقد بعضا من متعته وإثارته في غياب الجماهير ولكن الشغف بالتأكيد لم ولن يختفي يوما من أجواء القاهرة.. إحدى مدن كرة القدم.
اقرأ أيضا: