كتب : مصطفى عصام
رغم أن المعظم لا يتفاءل بالرقم 13 إلا أن يوم 13 يونيو عام 1979، وافق الفيفا على رفع الفرق القومية التي تمثل قارتي آسيا وافريقيا إلى فريقين بدلا من فريق واحد وتم رفع عدد الدول من 16 إلى 24 فريق.
صحيح أن القارة العجوز فازت في النهاية بنصيب الأسد، إلا أن أقدم قارتين جادا بجزء من المراد، كانت ركيزة هذا النصر هو فوز البرازيلي جواو هافيلانج برئاسة الفيفا على ستانلي روس (الرافض لتلك الزيادة).
صرح جواو هافيلانج بعد فوزه بالرئاسة: "أريد لمونديال إسبانيا القادم، أن يصبح مهرجانا لمختلف القوميات، وفي القادم سيزيد العدد، سيشترك بالتصفيات المقبلة 109 دولة بمختلف العالم، خير دليل على انبهار أهل الكرة الأرضية بكرة القدم".
غزو جديد للصحفيين العرب بعد تأهل منتخبي الكويت والجزائر لأول مرة، وانبروا لتصحيح لكنات جرائد البايس الإسبانية ودون بالون، اسمه صلاح عصاد وليس صلاح أسد، يمكنك أن تلمح تنقلات المصور التونسي بشير المنوبي ذو السومبريو (القبعة) والزي المكسيكي.
مع بشير أتى المئات من مشجعي الكويت والكاميرون والجزائر والسلفادور وبيرو، وامتلأت رحلات القطار بمراهنات المشجعين من ذوي القوميات المختلفة ربما على تذاكر لحضور مباريات البطولة أو تذكارات لبلاد لم يصلوا لها حتى بالبريد.
أحضر المنتخب الكويتي جملا استوردوه من المغرب قبل بدء البطولة، وداعب النيوزلنديون طيور الكيوي التي أحضروها معهم للبلاد، وفي النهاية أهدى المنتخبين الجمل والطائر إلى حديقة الحيوانات الإسبانية بعد أن لازمهم فترة الإقامة ببلد الوليد وبلباو.. أما بولندا على سبيل المثال، فجلبت معها حركة "تضامن"، وأهدتها لبراثن الشرطة الإسبانية!
من هنا تبدأ القصة.
دخلت المواطنة الإسبانية دولوريس زامورا والمواطن خوزيه ياشيكو التاريخ من أوسع أبوابه، فلكل كأس عالم شعار رسمي، ابتكرا هم شعار "نارا نخيثو" أي البرتقالة الصغيرة بالإسبانية على شكل لاعب كرة قدم، ولكن سببت تلك البرتقالة مشكلتين لا يناسبا حجمها الصغير، الأولى هي غيرة أغلب الأقاليم جنوب إسبانيا والقريبة من البحر المتوسط ذات الحركات الانفصالية من إن شعار البرتقال – غير المزروع بأراضيها- لا يعبر عن اعتراف إسبانيا بهم.
أما المشكلة الأخرى، فقد كان البرتقال نفسه أداة أفراد حركة تضامن البولندية في الاعتداء على أفراد الشرطة الإسبانية قبيل مباراتهم مع الاتحاد السوفيتي، فتجمع القوميات المختلف بطلب جواو هافيلانج لم يطفئ تدخلات شيوعية القطب الثاني لأمريكا داخل الأراضي البولندية قبيل كأس العالم بسنة واحدة، والذي كاد أن يوشك بحرب عالمية ثالثة.. ولكن ظلت محافظة على برودتها.
قررت اللجنة المنظمة للقرعة ألا يلتقي الفريق البرازيلي بالأرجنتين في الدور النهائي، الهدف كان لقاء فريق أوروبي مع فريق لاتيني لا لتصفية حسابات القارتين المتنافستين، بل لإضفاء المزيد من المتعة والمشاهدة وجلب أرباح من بيع التذاكر وحقوق الشراء في البث، تضمن كأس عالم ناجحا، كذلك حاولت القرعة تجنب مواجهة العدوين المتحاربين في مجموعة واحدة، كصراع إنجلترا والأرجنتين على جزر فوكلاند البعيدة آلاف الكيلومترات من مدريد، إذ كان توارد اللقاء يحمل إنسحابا واردا من إنجلترا وإسكتلندا وأيرلندا الشمالية من إسبانيا، كان قرارا حكيما من اللجنة بعد اندلاع الحرب وإسالة الدماء بين البلدين على الجزيرة قبيل أن غنى بلاسيدو دومينجو أغنية مونديال 1982 بملعب الافتتاح في كامب نو ببرشلونة.
شكلت الإيتا أيضا قمة المتاعب للحكومة الإسبانية، الجماعة الانفصالية من إقليم الباسك يخرجون بمظاهرات للمطالبة باستقلال إقليمهم الواقع بين فرنسا وإسبانيا كمواجهة أخرى مطلوب تلاشيها، أو متاعب أخرى سببتها جماهير الجزائر بإسبانيا بعد مؤامرة Náuseas de conciencia الشهيرة بين ألمانيا والنمسا لإقصاء الفريق العربي، مصطلح إسباني يعني غفوة وقيلولة الضمير وقت الظهيرة وظهر تضامنا مع الحيلة الدنيئة بخيخون ورمى المشجعون النقود صوب أرض الملعب.
حركة تضامن بمعقل برشلونة
كل هذه الترتيبات لم تفلح في منع التقاء الدب السوفيتي بنظيره البولندي في المجموعة.. في الدور الثاني لكأس العالم 1982، تأهلت بولندا لتلك المجموعة بعد مرحلة أولى وقعت فيها مع إيطاليا وبيرو والكاميرون، أما الاتحاد السوفيتي فقد تأهل من مجموعة البرازيل واسكتلندا ونيوزلندا.
إسبانيا في تلك الفترة وتحديدا ملعب كامب نو ببرشلونة قبل لقاء بولندا والاتحاد السوفيتي، شهد عددا من البولنديين المنفيين بأمر من حكومة بولندا الشيوعية في تلك الفترة والمدعومة من الاتحاد السوفيتي، هؤلاء كانوا أفرادا من حركة تضامن البولندية التي ظهرت عام 1980 بالبلاد لمعارضة النظام الشيوعي المعروفة بإسم Solidarność
طيلة فترة البطولة كان أفراد حركة تضامن ملاحقين من الشرطة الإسبانية أثناء تواجدهم بمدينة فيجو أو لاكرونيا بالتصفية الأولى، إلا أنهم وجدوا جزءا من التحرر أثناء التصفية الثانية المقامة بإقليم كتالونيا –الساعي للاستقلال- فانتشروا بكامل أعدادهم طيلة البطولة وقاموا ببيع شعارات الحركة للإسبان الكاثوليك بالمدينة ولباقي مشجعي الأرجنتين وبلجيكا وإيطاليا.
بالفترة من 1980 وحتى قبيل البطولة، لم يكن مستبعدا أن يقوم الاتحاد السوفيتي بشن حرب على بولندا بسبب نشاط تلك الحركة داخل البلاد ومناهضتها للنظام الشيوعي ويد السوفييت بأوروبا الشرقية، أمرا كان نذيرا بشن حرب عالمية ثالثة، إلا أن السوفيت بعد تورطهم في معركة جبلية خاسرة خلال الغزو بأفغانستان، مازالت تلملم جراحها وتحاول تحسين الموقف أمام الأمم المتحدة، فكلفت لجنة سرية خاصة من المخابرات الروسية KGB برئاسة يوري أندروبوف ووزير الخارجية أندريه جروميكو ووزير الدفاع ديمتري أوستينوف مخولة بشن القلاقل في بولندا وإلصاقها بتلك الحركة من أجل إحراج النظام البولندي أمام العالم وتقديم طلب صريح بعدها للحكومة البولندية بالتدخل من إجل إخماد ثورة الحركة.
ازداد نشاط حركة تضامن في ذلك الوقت لإنهاء النظام الشيوعي ببولندا ووصلت لنحو 9.5 مليون مواطن، فبدأت اتفاقات سرية بين الاتحاد السوفيتي وألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا من أجل شن غزو ثلاثي للأراضي البولندية من أجل تأديب الحركة بأنفسهم بأكتوبر عام 1980 تحت ذريعة "حلف وارسو المشترك".
الأمر أفضى في النهاية بمايو عام 1981 بعقد قمة رباعية لحلف وارسو في موسكو، تعهد بها الرئيس البولندي ستانسيلاو كانيا بأن يشرف بنفسه على قمع حركة تضامن، على أن يعطي الرئيس السوفيتي بريجينيف وعدا بألا يتدخل بقوة عسكرية في البلاد، وهو الذي أرجأ بريجينيف على التدخل خوفا من انتفاضة وطنية برعاية أمريكية توقع السوفيت في فشل واحراج جديد.
وفي المقابل أعلن بابا روما يوحنا بولس الثاني –بولندي الجنسية- تصريحا دبلوماسيا صباح المباراة بين بولندا والاتحاد السوفيتي يرجو أن يدعم فيه كأس العالم "التضامن العالمي"، تصريحا ذكيا من الكنيسة الكاثوليكية ضد المد الشيوعي، وفيما بعد لعب الدور الأول في سقوط الشيوعية بأوروبا الشرقية وكاملا عام 1991 حين صرح جورباتشوف بأن "انهيار الستار الحديدي كان مستحيلا لولا يوحنا بولس الثاني".
اشترى أعضاء الحركة أغلب تذاكر المباراة، وكان نجم بولندا الأول "بونياك" المنتقل حديثا ليوفنتوس الإيطالي عضوا بتلك الحركة، وصنع حالة بمدينة برشلونة حتى رددت مجلة البايس الإسبانية أن فريق برشلونة كان عليه دفع السبعة ملايين دولار من أجل بونياك لا مارادونا، متجاهلة أن النجم الأرجنتيني يلعب بالمدينة الأن مع منتخب بلاده على ملعب ساريا.
بدأت المباراة هادئة وفاترة نوعا ما، فبولندا ينقصها التعادل فقط من أجل التأهل لنصف النهائي، حتى تدخلت الشرطة الإسبانية بالدقيقة 60 من عمر اللقاء نحو المدرجات شمال المقصورة من أجل إزالة يافطتي لحركة تضامن بناء على طلب من التلفزيون السوفيتي، فاندلعت اشتباكات بين الشرطة الإسبانية وأعضاء الحركة تبادلوا فيها الرشق بالبرتقال (شعار البطولة).
أوصل لاعبو بولندا رسالتهم ورسالة حركة تضامن لكل العالم بالقرب من نهاية المباراة، حين عزموا على الإتجاه بالكرة صوب الراية الركنية للسوفيت أخر 10 دقائق لتضييع الوقت، وليعلو زئير المشجعين البولنديين بالهتاف ضد الاتحاد السوفيتي وضد الشيوعية التي أثقلت هموم أوروبا الشرقية بل العالم بأكمله، وبالنهاية دخلت بولندا الدور القبل النهائي وأوصلت رسالتها لـ 109 دولة نقلت منافسات كأس العالم!.