بمجرد أن يُذكر اسم الكرة الألمانية لدى الأغلبية، يتنامى إلى فكرهم المقولة الشهيرة "الواقعية الألمانية"، واستنادًا إلى تجارب المنتخب الألماني وبايرن ميونخ في السنوات الماضية، ترسخت فكرة أن الكرة الألمانية تتسم بالواقعية، فليست بكرة دفاعية جامدة مملة، أو كرة حديثة بصورة زائدة عن الحد الطبيعي كمدرسة كرويف وبيب جوارديولا.
إلا أن واقع الأمر يقول عكس ذلك، فنعم ربما المنتخب الألماني اتسم بالواقعية في أوقاتٍ كثيرة، وبالمثل بايرن ميونخ، لكن الأوضاع داخل الدوري الألماني في السنوات الأخيرة تنفي هذه الفكرة.
إن المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه الكرة الألمانية هو الجمهور وإرادته ولا شيء سواه، وكنتيجة لشغف جمهور البوندسليجا بصورة غير عادية بالكرة الشاملة والحديثة، استقدمت الأندية المدربين الذين يتبعون فلسفة الهجوم ولا شيء سواه، أراد الجمهور أن يرى المتعة في الملاعب الألمانية مفضلًا إياها في كثير من الأوقات على النتيجة.
يورجن كلوب وتوماس توخيل وروجر شميدت ولوسيان فافري وأندري شوبيرت ويوليان ناجلسمان وحتى استقدام بايرن ميونخ لجوارديولا أمثلة حية على تبلور إرادة الجمهور في أن ترى كرة هجومية خالية من الدفاع، وهو ما أدى في الوقت ذاته إلى ظهور جيل جديد من المدربين الشباب وبزوخ عدد لا بأس به مِن مَن هم دون الأربعين عامًا ويتبنون الفكر الهجومي ولا يحبذون الواقعية بقدر تقديم أداء جماليًا كما تمنت الجماهير وإدارات الأندية.
اندثر جيل كامل من المدربين كتوماس شاف وآرمين فيه وفيليكس ماجات وغيرهم، وباتت النظرة إليهم أنهم حتى وإن أرادوا الهجوم فطريقتهم قديمة اعتيادية لا تقدم جديدًا، البعض منهم تحول للعمل الإداري، والآخر اعتزل التدريب أو خرج خارج الحدود الألمانية وكنتيجة أيضًا للتوجه الألماني الطبيعي للشباب، فأصبح تولي أحد أصحاب الخبرة في جنبات البوندسليجا قيادة فريقًا من فرق الصف الأول شبه مستحيل.
الجيل الجديد جيل هجومي، يحب الاستحواذ والضغط العالي، لا يأبه كثيرًا بأنه يواجه بايرن ميونخ أو أي فريق، يفضل الهجوم ولا غيره، تجارب كثيرة في أغلب الأندية كناجلسمان في هوفينهايم، تيديسكو في شالكه، شفارتس في ماينتس، تسورنيجر في شتوتجارت، تسينباور في هامبورج وسابقًا جيسدول في هوفينهايم، شوبيرت في مونشنجلادباخ وهازنهوتل في لايبتسيش وغيرها.
نجحت تجارب وفشلت الأخرى، ولكن من وسط هذا الجيل، ظهر المدرب المختلف، الذي لا يكره الهجوم ولكن في الوقت نفسه يقدس الدفاع عند الحاجة، لا يمانع من امتاع الجمهور ولكنه يفضل الواقعية، يحترم امكانات فريقه وخصمه في نفس الوقت، الحديث هنا عن هانيس فولف، صاحب الـ 36 عامًا، والذي يتولى القيادة الفنية لفريق شتوتجارت والذي يُعد من أكثر المدربين المتوقع لهم مستقبل باهر في ألمانيا.
رحلة ناجحة حتى الآن
فولف هو واحد من أبناء بوروسيا دورتموند على الصعيد التدريبي، فتكونت شخصيته التدريبية داخل جدران أسود الفيستيفالين من خلال إشرافه على فرق دورتموند دون الـ 17 عامًا والـ 19 عامًا إلى جانب فريق الرديف، وقد تمكن في الفترة بين 2013 إلى 2016 من تحقيق 3 ألقاب، دوريان على التوالي في موسمي 2013/2014 2014/2015 مع دون الـ 17 عامًا، ثم الدوري لدون الـ 19 عامًا في 2015/2016.
هبط شتوتجارت إلى الدرجة الثانية في موسم 2015/2016 وفي الصيف أُعلن جوس لوهكاي مدربًا للفريق، ونتيجة لعدم الاستقرار الإداري، استقال من منصبه لعدم التوافق مع يان شيندلمايسر المدير الرياضي أنذاك لفريق الجنوب، ليقوم الأخير بالتعاقد مع هانيس فولف في سبتمبر 2016 ويُعلن بداية رحلة جديدة مع مدرب شاب كما أرادت الجماهير.
لمن لا يعرف، فإن جمهور شتوتجارت أراد تجربة مدرب شاب منذ فترة طويلة، وكان الاعتماد على أبناء النادي، فبدأت بتجربة لم تأخذ وقتًا طويلًا لينس كيلر في 2010 ثم عاد لقطاع الناشئين مجددًا، ثم توماس شنايدر في 2013، والذي يعمل حاليًا مساعدًا ليواخيم لوف في المنتخب الألماني، وأخذت هذه التجربة نصف موسم تقريبًا وأُقيل لسوء النتائج، وأخيرًا كان ألكسندر تسورنيجر في موسم الهبوط وأُقيل قبل نهاية الدور الأول لسوء النتائج أيضًا.
فولف تسلم تدريب شتوتجارت بعد 6 جولات فقط من بداية الدرجة الثانية، وفي نهاية المطاف تمكن من تحقيق الصعود للشفابينس وتحقيق لقب الدوري الدرجة الثانية، وينجح في كسب ثقة أغلب جمهور الفريق.
تلميذ كلوب
تحدث فولف عن علاقته بيورجن كلوب الذي زامله في دورتموند قائلًا "بدون كلوب لم أكن لأكون في شتوتجارت، لقد كنت محظوظًا بصورة لا تصدق للعمل معه لست سنوات كنت فيها قادر على متابعة التمارين والتعلم منه، إنه من الصعب أن أقول كيف أنه ترك تأثيرًا كبيرًا عليّ ولكن يمكنني القول أنه دائمًا ما يساعدني، لقد ساهم كثيرًا في تطور مدرب شاب مثلي."
يُدين فولف بالفضل لكلوب ليس فقط لأنه ساعده بالنصائح وما شابه، بل لأنه كان سببًا رئيسيًا في تدرج فولف في فرق الفئات السنية لدورتموند، فأول مقابلة بينهما كانت بعد تتويج فولف بأحد بطولات الهواة وأبدى كلوب إعجابه به وأخذ رقم هاتفه ثم تحدث مع إدارة دورتموند عنه وانتهى المطاف به بالعمل داخل أسود الفيستيفالين.
كذلك فقد تحدث فولف في أكثر من مناسبة عن أن توماس توخيل المدير الفني السابق لدورتموند ساعده كثيرًا بعد أن خلف كلوب في تدريب دورتموند واعتبر أنه أيضًا من أكثر من أثروا فيه في مسيرته التدريبية.
في الوقت نفسه فقد تحدث عنه فرانك فورموت مدرب منتخب ألمانيا تحت 20 عامًا وأحد مسئولي الاتحاد الألماني بقوله "لديه مستوى عالٍ من الخبرة، يمكنه نقل أفكاره إلى اللاعبين بصورة جيدة جدًا، هو لا يختلف كثيرًا عن ناجلسمان وتوديسكو."
بعد إقالة دورتموند للمدرب بيتر بوش في ديسمبر الماضي، كان فولف هو المرشح الثاني لخلافته في الموسم المقبل بعد ناجلسمان وهو مؤشر كبير على حجم العمل الإيجابي الذي يقوم به في شتوتجارت.
الهدوء والحذر
على عكس أغلب جيله وعلى عكس معلمه كلوب، ففولف يتسم بالهدوء وعدم الاندفاع، فلا يميل فولف للهجوم بصورة مبالغ فيها، بل يفضل الحذر والدفاع، الأرقام تشهد على ذلك، فالفريق معه في الدرجة الثانية تلقى فقط 32 هدفًا وكان أقوى خط دفاع، مع الأخذ في الاعتبار أن الموسم السابق لهذا الموسم تلقى الفريق 75 هدفًا.
أما هذا الموسم في البوندسليجا فقط تلقى فقط 21 هدفًا من 18 مباراة لعبها، أي عدد أهداف أقل من أغلب فرق المقدمة كلايبتسيش ودورتموند وشالكه وهوفينهايم، حتى وأن أثقل هزيمة تلقاها الفريق كانت بثلاثة أهداف لهدف أمام شالكه في الجولة الثالثة خارج الديار، مما يوحي بتركيزه على الشق الدفاعي بصورة كبيرة.
ديناميكية وتعلم من الأخطاء
من أكثر المميزات في فولف هي ديناميكيته، فهو ليس بالمدرب الجامد فكريًا إذا ما قرر الاعتماد على طريقة لعب واحدة يُكمل بها، على العكس، فهو يضع خطته التكتيكية بما يتناسب مع المباراة والخصم.
نلاحظ أن فولف بدأ الموسم بـ 4/2/3/1 ثم حولها إلى 3/4/3 تتحول عند الدفاع لـ 5/4/1 ثم لعب بطريقة 4/3/3 وعاد إلى 4/2/3/1.
هذه الديناميكية ليست فلسفة بقدر ما هي تعلم من الأخطاء وقراءة للأمور بطريقة صحيحة، فالمدرب الشاب رأى أن مواجهة فريق مثل بايرن ميونخ لا تتطلب ضغطًا عاليًا بل مقابلة في الثلث الدفاعي له فقط، بينما أمام دورتموند، فمن الضروري الضغط في مناطق بوروسيا.
في الدرجة الثانية، واجه شتوتجارت على أرضه ندًا قويًا كان دينامو دريسدن، اندفع الفريق إلى الهجوم بطريقة مبالغ فيها منذ اللحظات الأولى، نتيجة لذلك انتهى الشوط الأول بثلاثة أهداف نظيفة للضيوف، هذه المباراة والتي انتهت لاحقًا بالتعادل بثلاثة أهداف لكل فريق، تسببت بشكل أو بآخر لفهم فولف أهمية التوازن وعدم الاندفاع واحترام الخصم، انعكس ذلك على أدائه حتى اللحظة في قيادة الشفابينس.
تطوير اللاعبين
أفضل ما في فولف هو تطويره للاعبين بصورة لا تصدق، يلاحظ ذلك في أمثلة عدة، أبرزها بنيامين بافارد المدافع الفرنسي، فتحول بافارد لواحد من أفضل المدافعين الشباب في أوروبا بدون مبالغة، مما أدى لالتحاقه بالمنتخب الفرنسي، كذلك الأرجنتيني إيمليانو إنسوا الذي انطفأت شمعته منذ أن غادر ليفربول، تطور كثيرًا في الشق الدفاعي والهجومي وانضم للمنتخب الأرجنتيني للمرة الأولى من سنوات.
كذلك لاعب مثل سانتياجو أسكاسيبار الذي أتى من الأرجنتين الصيف الماضي وجعله محط أنظار ريال مدريد، ومدافع منتخب بولندا الذي صار أساسيًا في المنتخب بعد تطوره، مارتين كامينسكي وغيرهم.
فولف يتعامل مع اللاعبين فنيًا بصورة مميزة، ولكن ما يميزه أيضًا هو البعد النفسي، فمثلًا مدرب مثل توماس توخيل بشهادة الجميع من أقوى المدربين من الناحية الفنية، لكنه يُعاني نسبيًا مع البعض بسبب طريقته الصعبة في التعامل، أما فولف فالعكس، استطاع أن يكسب جُل اللاعبين وهو ما انعكس إيجابًا على الفريق بكل التأكيد.
يستغل فولف كل الظروف المحيطة تقريبًا لتقوية عزم اللاعبين، ما قد يؤكد هذه الفكرة أن شتوتجارت معه لم يخسر على أرضه سوى أمام باير ليفركوزن وبايرن ميونخ، وجعل ملعبه مكانًا صعبًا لأي خصم، فبايرن انتصر بهدف نظيف بصعوبة شديدة، فاستغل فولف الدعم الجماهيري العظيم ليزوِّد من عزم اللاعبين وهذا عمل نفسي عظيم مقارنة بمن سبقوه ومقارنة بعمره.
عيوب ظاهرة في حالة إلى علاج
بالتأكيد لفولف عيوب، ولعل الأبرز منها هي الحذر الزائد عن الحد في بعض الأوقات، ليس هناك خلاف أن الحذر والدفاع أحيانًا يكون مفيد ومطلوب، ولكن المبالغة في كثير الأحيان أيضًا تكون سلبية.
ربما أن فولف معذور بسبب قلة خبرته، ولكن ذلك ينعكس سلبًا على الفريق، فأحيانًا يفضل الدفاع والحذر والاستماتة في الخلف خارج الأرض حتى وإن كان الخصم ضعيفًا، تسبب هذا في أن شتوتجارت طيلة هذا الموسم حقق نقطة واحدة خارج أرضه، سجل سلبي، ولكن أغلبه لمن تابع يرجع إلى خوف مبالغ فيه.
هذه الظاهرة بدأ يُعالجها فولف مؤخرًا، فمن تابع آخر مباريات شتوتجارت خارج الديار أمام بريمن وهوفينهايم وماينتس ومن قبل أمام لايبتسيش سيعلم أن الحظ وحده هو من أضاع النقاط على شتوتجارت الذي هاجم بضراوة ولكنه اصطدم إما بتألق حارس مرمى أو رعونة مهاجم وما شابه.
يجب لفت الانتباه إلى أن شتوتجارت لا يحتوي على لاعبين من طراز رفيع، بل إن أغلب اللاعبين هم لاعبون شباب مُطعمين بالحارس الخبير رون روبرت تسيلر والقائد كريستيان جنتنر وحديثًا النجم الكبير ماريو جوميز، بالتالي فيفتقد الفريق بصورة واضحة للخبرة خارج ملعبه على وجه التحديد، ووعد فولف في أكثر من مناسبة بتحسين مردود الفريق خارج الديار وتحسين المردود الهجومي بشكلٍ عام، إذ أحرز الفريق فقط 14 هدفًا ولكن رغم ذلك فإنه حقق 6 انتصارات وتعادلين وهو الرقم الأفضل لشتوتجارت في الدوري الألماني منذ سنوات.