كتب : أحمد العريان
كرة القدم تلعب داخل الميادين لكن آثارها تمتد في كل مجالات الحياة. أندية مصر التاريخية كحال جميع الأندية الكبيرة حول العالم، لم يكن دورهم مقتصرا على أرض الملعب فحسب ولم يصنعوا جماهيريتهم فوق عشبه الأخضر فقط، وإنما ساهمت أسباب أخرى كذلك في صناعتها.
المصري كان هو النادي الذي يحمل اسم الوطن في مواجهة الأجانب، والاتحاد السكندري كان نتاجاً لدمج عدد من الأندية بالإسكندرية، أما غزل المحلة، فهو نادي طبقة البروليتاريا.
في هذه السلسلة، يستعرض FilGoal.com العوامل التي كانت سببا في صناعة شعبية الأندية الجماهيرية في مصر.
---
كيف صنعت أندية مصر شعبيتها (1) غزل المحلة.. نادي طبقة البروليتاريا
كيف صنعت أندية مصر شعبيتها (2) الاتحاد السكندري.. نادي المصريين في مواجهة الإنجليز
كيف صنعت أندية مصر شعبيتها (3) الزمالك - نادي التعايش السلمي.. معشوق كل الطبقات
كيف صنع الأهلي شعبيته - نادي الطلبة.. شعاره فوق الجميع
"فاز المصري، والمصري هو ذلك النادي الذي يكتسب من مصر شرفها والذي تشرق عليه الشمس قبل أن تشرق على أندية مصر الأخرى".
بتلك الكلمات وصفت صحيفة الأهرام نادي المصري، في الصباح التالي بعد فوزهم على الأهلي في القاهرة في نهائي كأس السلطان حسين عام 1934 بنتيجة 4-2 محققا ثاني بطولاته الرسمية التي يصل عددها إلى 22 بطولة.
هو النادي الوحيد الذي لا يحتاج لذكر جنسيته، لأن اسمه وحده كاف كي يكون عنوانا لبلد نشأته.
"جمهور بورسعيد صعب، ربما لا يفهم في كرة القدم كثيراً لكنه جمهور طموح ولا يحب سوى الفوز رغم أن كرة القدم غير ذلك، فالكرة مكسب وخسارة". هكذا وصف بوشكاش النجم المجري الأسطوري لريال مدريد جمهور المصري حينما كان مدرباً للقلعة الخضراء في فترة الثمانينيات.
القصة بدأت قبل ثورة 1919، حينها كانت بورسعيد عامرة بأندية الاحتلال والجاليات الأجنبية الأخرى وعلى رأسهم ناديي "فورتيس" ونادي "أشكرابية"، الأول حل محله الآن نادي المريخ البورسعيدي الذي تأسس مطلع الخمسينيات في نفس مكان نادي فورتيس جغرافيا، فيما تغير اسم الثاني وأصبح نادي بورفؤاد حالياً.
وسط هذه السيطرة للاحتلال والوجود الأجنبي، كان لابد للمصريين أن يتواجدوا ويؤسسوا ناديهم. اندلعت الثورة في مصر واشتعلت نيرانها في بورسعيد التي شهد مينائها خروج زعيم الثورة سعد زغلول ورفاقه على سفينة أقلتهم إلى منفاه في مالطا، حينها تغنى سيد درويش بأغنية "قوم يا مصري" وباتت نشيداً ثورياً لكل المصريين، فاستمد منها أبناء بورسعيد اسم ناديهم الذي أسسوه عام 1920 بعد الثورة بعام واحد ليكون أول الأندية الوطنية في منطقة قناة السويس ويستحق لقب زعيم القناة.
التأسيس كان في مواجهة الاحتلال، ومن هنا ترسخت لدى جماهيره وأبنائه ثقافة المقاومة وغريزة البقاء مهما كانت التحديات.
أثناء الثورة ظهر العلم الأخضر الشهير لمصر كعلم شعبي رفعه المصريون في وجه الاحتلال، فاتخذ المصري اللون الأخضر لوناً لقميصه دعماً وولاءً للثورة قبل حتى أن تتبنى الدولة هذا العلم رسمياً بعد صدور دستور 1923 ليصبح العلم الأخضر أول علم وطني لمصر الحديثة التي كانت قبلها تتخذ علم الدولة العثمانية الأحمر علماً لها باعتبارها ولاية عثمانية وهو نفس العلم الأحمر الذي اتخذ منه الأهلي لوناً لقميصه.
التجمع الوحيد في الهجرة
على مر التاريخ توثق الرابط بين النادي المصري وجمهوره على نحو أصبح من المستحيل فصلهما فأصبح المصري العنوان الأبدي للمدينة الباسلة، وأينما تواجد المصري تجد جماهيره حاضرة، نعم هو النادي الذي تأسس لمجابهة الأجانب، ولكن هذا ليس كل شيء فهناك ما هو أكبر بين جمهور المصري وناديه.
النادي المصري هبط في تاريخه مرة واحدة كانت بموسم 1957/1958 وهو الموسم التالي مباشرة للعدوان الثلاثي بسبب تأثر النادي بتداعيات الحرب في بورسعيد وما نتج عنها من رحيل أبرز لاعبي الفريق وعلى رأسهم الهداف التاريخي للمصري السيد الضظوي الذي انتقل للأهلي، رحل لاعبون ولكن بقي الجمهور مسانداً.
لعب المصري بالدرجة الثانية لموسمين فقط قبل أن يعود مجدداً أكثر قوة للدوري الممتاز في موسم 1960- 1961 ليظل المصري أكثر الأندية –بعد الأهلي والزمالك-، مشاركة في مسابقة الدوري المصري الممتاز في التاريخ، إذ لم يغب عن الدوري الممتاز سوى في موسمين فقط.
لم يكد المصري أن يفيق من آثار تداعيات العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ويبدأ في إعادة بناء قوته من جديد حتى تلقى صدمة حرب 1967 والتي تسببت في تهجير أهالي بورسعيد بقرار من رئيس الجمهورية سنة 1969 للاستعداد لمعركة التحرير بعد أن أصبحت المدينة في مرمى نيران طيران العدو الإسرائيلي طوال عامين، وهو ما أدى إلى تشتيت لاعبي الفريق وجماهيره بين مدن مصر المختلفة، فضلاً عن استدعاء بعضهم للقوات المسلحة وبالتالي تم إيقاف النشاط بالنادي حتى أعيد تجميع الفريق مجدداً ولكن هذه المرة خارج بورسعيد بمدينة رأس البر في ملحمة بطولية.
يروي محمد فاروق رئيس المركز الإعلامي للمصري: "الفريق في تلك الفترة لم يكن يتدرب سويا ولكن كان يتجمع في الملعب قبل المباراة بساعة فقط، فمنهم من كان يحارب على الجبهة ومنهم من كانوا مغتربين في محافظات أخرى بسبب الهجرة".
"مسعد نور عاد من الزمالك ليدعم المصري، عبود الخضري أنهى احترافه في اليونان وعاد ليعاون المصري على عبور تلك الفترة، أما محمد الفقي فقد كان ضابطا في القوات المسلحة، وفي إحدى المرات أصيبت قدمه بسبب مرور سيارة حربية عليها أثناء التدريب، وحين سافر إلى الزقازيق لحضور مباراة المصري - والذي كان يلعب في مختلف المحافظات أثناء التهجير - قال له مصطفى الشناوي مدرب الفريق أنه بحاجة لمجهوداته، وهنا كسر الفقي الجبيرة وخاض المباراة!".
جمهور المصري لم يكن أقل وفاء لناديه بتلك الفترة عن اللاعبين، وهنا يقول محمد فاروق: "جدي يحكي لي أنه لم يكن يلتقي بأقاربه أثناء التهجير إلا في مباريات المصري، لأن كل منهم كان في محافظة مختلفة، لكن حين يلعب المصري في أي مكان فيكون ذلك بمثابة تجمع للعائلة بأكملها، وبالتالي كانت مباريات المصري في ذلك الوقت المناسبة الوحيدة لتجمع الأقارب وتنسم رائحة بورسعيد".
عاد المصري أخيراً عام 1974 إلى مدينته بورسعيد وإلى ملعبه بعد غياب دام لنحو سبع سنوات من الشتات، ليجد ملعبه في حالة سيئة أقرب إلى كثبان رملية منه إلى ملعب كرة قدم، ليتضافر لاعبو المصري شخصياً بصحبة جماهيرهم للمشاركة في إعادة تأهيل الملعب وتجهيزه للمباريات.
الملعب
كان أول ملعب للنادي المصري هو الملعب الحالي لجمعية الشبان المسلمين في بورسعيد، وفي عام 1953 رأى المصري ضرورة البحث عن مقر جديد يتناسب مع التطور الذي شهده النادي وجماهيريته العريضة بعد أن أصبح المقر القديم لا يتناسب مع الحضور الجماهيري الكبير للمصري.
وبعد فترة من اتخاذ المصري لملعب بورفؤاد -التابع لشركة قناة السويس الأجنبية وقتها قبل تأميمها لاحقاً- مقراً لاستضافة مبارياته، شعر مسئولو نادي بورفؤاد بالضيق من استضافة المصري وجماهيره بملعبهم، وهنا قررت إدارة المصري فتح باب التبرعات لبناء ملعب جديد خاص بهم.
جمهور المصري لبى النداء وسارع الجميع للتبرع كل حسب قدراته حتى نجحوا بالفعل في بناء الملعب بالجهود الذاتية ودون استعانة بدعم من الدولة، وفي عام 1955 افتتح الملعب وكانت أولى المباريات عليه أمام الأهلي وانتهت بفوز الفريق الأحمر بهدفين مقابل لا شيء.
وعلى أرض هذا الملعب في 27 سبتمبر من عام 1974 كانت أولى مباريات المصري في بورسعيد بعد صدور قرار السماح للمواطنين بالعودة لمحافظاتهم مع انتهاء فترة التهجير.
المباراة انتهت بفوز المصري بثلاثة أهداف مقابل هدفين على غزل المحلة، المحلة حينها كان هذا الفريق المرعب لجميع المنافسين أمام المصري العائد بعد فترة من الشتات، لكن زئير الجمهور في المدرجات صنع الفارق وأهدى فوزاً درامياً للنسور الخضر بعد أن كان المصري متأخراً حتى الدقائق الخمس الأخيرة أمام المحلة قبل أن ينتفض لاعبوه ويحرزوا هدفين حسموا بهما اللقاء.
المصري وعلى مدار تاريخه مر بعثرات وأزمات، ولكن كان هناك ثابت واحد لم يتغير أبداً، هو أن جمهور المصري دائما هو درع ناديه وسيفه الذي كان وحده سببا في بقاء تلك القلعة الرياضية إلى يومنا هذا رغم كل ما مرت به من محن، فكلما اشتد الضغط على المصري وشعر جمهوره بظلم للنادي أو بتهديد لكيانه كلما ازداد عشقهم له وزادت جماهيريته!