كتب : لؤي هشام
كان الفتى الصغير أحد المتيمين بالكرة، عندما كان يٌلقي والده عليه نظرة ما قبل النوم كان يجده دوما يحتضن الكرة. صار الفتى لاعبا كأقرانه، برز من بينهم وكان مميزا ولكنه لم يكن قد صنع أسطورته بعد.
في إحدى الليالي الباردة شاهد في منامه أنه يصنع ثورة، ولكنها كانت ثورة داخل مستطيل أخضر، مرت الليالي والأعوام ولم يعد يتذكر الفتى الذي أصبح رجلا يافعا ذلك الحلم، ولكنه أدرك أنه في الطريق لصناعة أسطورته.
التاريخ دوما يصنعه الجنود ولكن يظل المجد الحقيقي بين يدي القائد المحنك الذي رسم لهم خطواتهم وحركهم بنظرة ثاقبة واضعا إياهم في المكان المناسب. وجوسيب الصغير تحول من جندي لامع إلى قائد تاريخي يرسخ خطوة تلو الأخرى أسطورته.
جوارديولا ينثر سحره بين الجميع ولا أحد قادر على إيقافه، والرد هذه المرة جاء في المكان الذي طالما شكك في قدراته وفي البلد التي لطالما تفاخرت بأسلوبها.
مانشستر سيتي نجح في الانتصار على توتنام 4-1 ليحقق فوزه السادس عشر على التوالي صانعا التاريخ في الدوري الإنجليزي كأكثر رقم انتصارات متتالي في تاريخ المسابقة.
ليس هذا فقط وإنما يتصدر الأزرق السماوي الترتيب بلا منازع وبفارق كبير عن أقرب ملاحقيه صانعا ما لم يحدث في تاريخ الإنجليز منذ عقود طويلة.
ولكن لماذا كانت التجربة مع مانشستر سيتي هي التحدي الأصعب لجوارديولا؟ ولماذا كانت تلك التجربة لتضع أفكاره وفلسفته الكروية على المحك؟
التشكيك. هذه هي الإجابة ببساطة، فمنذ قدوم بيب إلى مدينة مانشستر والجميع يتحدث عن عدم مناسبة أسلوبه للكرة الإنجليزية وما أثار الشكوك أكثر وأكثر هو موسم أول خرج منه خالي الوفاض لأول مرة في مسيرته التدريبية.
ولكن تلك الشكوك لم تبدأ عند الإنجليز فقط ولكنها ظهرت في ألمانيا حيث تولى مهمة القطب الأوحد بايرن ميونيخ وبدأت بعد رحيله عن برشلونة.
ولكن دعونا نسير خطوة بخطوة، البداية كانت مع برشلونة B وحينها بدأ في تطبيق أفكاره التي سعى خلفها دوما منذ أن كان لاعبا ولكنها لم تكن الأرض الخصبة بعد حتى يتيقن من فاعليتها.
ومع توليه مهمة الفريق الأول لبرشلونة في 2008 جاءت البداية الأكثر شكا بالنسبة له شخصيا، لم تكن النتائج تسير بشكل جيد في البداية وبيب بدأ يفقد الثقة في أفكاره.
حتى أتى أندريس إنييستا يوما إلى مكتبه وقال له: "لا تتوقف نحن نثق بك وبأفكارك، لا تقلق سنفوز بكل شيء" - بحسب ما ذكر أندريس في كتابه (الرسام) - لتنقلب الأمور بعدها رأسا على عقب.
مع الفريق الكتالوني حصد الأخضر واليابس وحقق كل شيء. لم يكن ذلك كافيا لإيقاف الشكوك فتمتعه بجيل قد لا يتكرر في عالم كرة القدم جعل البعض ينسب الفضل كله لهم فقط.
بيب نفسه نسب الفضل لهم وقال مرارا وتكرارا أنه لولا وجود لاعبين أمثال ليونيل ميسي وإنييستا وتشابي هيرنانديز وجيرارد بيكيه وغيرهم لما حقق ذلك.
وقال لتيري هنري الموسم الماضي في حوار مع سكاي سبورتس: "في أبهى لحظات التتويج كنت أقول دوما إنه لا يمكنني تحقيق ما حققته بدون هؤلاء اللاعبين الاستثنائيين ولكن بعد ذلك كانوا يقولون إنني لم أكن لأحقق كل تلك البطولات بدونهم! حسنا أنا قلت ذلك قبل الجميع".
بعد التشكيك في أفكاره كونه يمتلك جيلا ليس بحاجة لمدرب – كما يقول البعض – انتقل إلى تجربة أخرى وهذه المرة في إقليم بافاريا.
وإن كانت أفكاره الثورية وجدت أرضا خصبة في كتالونيا فبافاريا لم تكن بنفس الخصوبة.
اصطدم بيب بميراث ألماني طويل العهد من اللعب الهجومي المباشر دون استحواذ مبالغ به وخطوط خلفية مستباحة، حتى مقاليد السيطرة على الأمور التي عهدها جوارديولا في بيته الكتالوني لم تكن بنفس الحال في بايرن، ورغباته توقفت أمام العقبات الإدارية المتعارف عليها.
تجربة أثمرت عن الكثير من الأفكار الفنية والاختراعات التكتيكية بل والتأثير في المنتخب الألماني ذاته (طالع تقرير خروج خيسوس ودخول مانجالا.. جوارديولا نحو إدراك أكبر وواقعية أكثر لمزيد من التفاصيل)
ولكن ظل فشله في تحقيق دوري أبطال أوروبا 3 مواسم متتالية غصة في حلقه، وإن كانت الحقيقة أنه لم ينجح بالشكل المنتظر منه. أفكاره وإن كانت مؤثرة إلا أنها لم تحقق النتائج المرجوة.
بكل تلك التجارب والشكوك أتى بيب ليصنع مشروع نادي بأكمله، ناد يبحث عن نسخة معدلة من بارسا الذهبي، وكالعادة بناء المشروع يحتاج إلى وقت والحاجة للتأقلم هي أهم شيء خاصة في بلد كإنجلترا.
في الموسم الأول مع السماوي انهالت الانتقادات على أسلوبه وأخبره الجميع بأن أفكاره لن تجدي هنا في إنجلترا. وهو كان يطلب المزيد من الوقت فقط، وصمم "لن استغنى عن أسلوبي، لن أغير طريقتي حتى آخر يوم في مسيرتي" انتظر موسما آخرا حتى أتى الرد بالغا.
"لقد أظهرنا أن هذه النوعية من كرة القدم يمكن أن تلعب في إنجلترا، قالوا إنها تصلح فقط في إسبانيا ولكننا أظهرنا أن هذا ممكن عندما تملك الشجاعة للعب".
كانت تلك تصريحاته بعد الانتصار على مانشستر يونايتد، وكأنه ينتظر الفوز على الجار اللدود وتوسيع الفارق حتى يُظهر ثقته للجميع.
ثقة ظهرت أكثر وأكثر بعد الانتصار على توتنام، الدفعة الآن باتت هائلة والكل أجمع "سباق الدوري انتهى" لم يعد جوارديولا بحاجة لإظهار التواضع.
أو كما قال بعد مباراة توتنام "لست في مزاج لإظهار التواضع، أنا فخور بما حققناه".
لاعبو سيتي لم يكونوا كلاعبي برشلونة وبايرن، ليسوا نخبة النخبة من اللاعبين ولهذا لم يكن بحاجة للتواضع.
ليروي ساني مثلا كان موهبة متألقة مع شالكه تجلس على مقاعد البدلاء في المنتخب وليس بالنجم الذي يعد سلاحا هاما.
رحيم سترلينج لم يكن أكثر من جناح اعتيادي يلعب على طول الخط الجانبي، يتألق أحيانا وينخفض مستواه أحيانا، لم يعهده أحد بذلك المستوى من التطور.
جون ستونز ونيكولاس أوتاميندي وفيرناندينيو كلها أسماء جيدة ولكنها ليست بجودة بيكيه وبويول وبوسكيتس مثلا، كل ذلك المشروع صنعه بيب بالكثير من الجهد والعرق.
حتى كيفن دي بروين نفسه كان صانع الألعاب الفذ نعم ولكنه لم يتحول إلى مرحلة العبقرية سوى مع بيب.
وكما كان ميسي هو حجر الأساس في مشروعه مع برشلونة فقد أصبح دي بروين ذلك النموذج الذي يريد أن يبني عليه.
"إنه واحد من أفضل المواهب، عندما ترى قتاله وتحركه بدون الكرة فإنه مثال جيد للاعبي أكاديميتنا، دي بروين يساعدنا لكي نصبح نادي أفضل ومؤسسة أفضل في المستقبل".
ولذلك كان الرد بالغا على أنه لا يتولى إلا الفرق التي تمتلك النجوم، هو الآن لا يمتلك فيليب لام وتوماس مولر وليفاندوفسكي وريبيري وروبن.
ولكن في جعبته بيرناردو سيلفا وإلكاي جوندوجان وأجويرو وخيسوس. أسماء وإن وضعتها في سياق أفكار بيب فقد حققت النجاح المرجو منها حتى الآن ونفذت أهدافه على أكمل وجه.
في أفضل لحظاته لم ينس أن ينسب الفضل لأصحابه فكل ذلك لم يكن ليتحقق بدون دعم وثقة لا محدودة من إدارة ناديه ولاعبيه. الثقة هي أهم شيء بالنسبة له.
"الشيء الأهم هو أننا آمنا بأنها أفضل طريقة للعب، لا يوجد لديهم أي شكوك، عندما تؤمن يتبعك اللاعبون.. بدون لاعبين جيدين وإدارة تدعم أفكارك فإنه من المستحيل أن تحقق تلك السلسلة من الانتصارات".
الإيمان، الإيمان وحده بما آمن به بيب هو من صنع هذا الفارق وعندما صفق الجميع كان الرد بالغا.