كتب : مصطفى عصام
مرحبا أنا مايك موسجراف، آيرلندي مقيم بدبلن تخطيت الستين عاما بسنوات لا بأس بها، بدأت قصتي مع كرة القدم مع فريق يقع أقصى شمال إفريقيا حسب دراستي صغيرا يدعى "مصر"، لم أكن أعرف عنها قبل كتابة قصاصاتي سوى (الأهرامات- الجمال- أم كلثوم- الإسكندر الأكبر والفراعنة)، للتو انتهيت من قراءة تقريرا من مجلة "وورلد سوكر" الإنجليزية قبل البطولة تحكي عن استعدادات هذا الفريق لكأس العالم 1990 بإيطاليا.
El-Gohary Creates Work team revolution
المجلة لم تتضمن صورا سوى لقائد الفريق المصري جمال عبد الحميد محمولا على أعناق أحد المصورين "والذي لم يبدأ لقاء مصر وآيرلندا وفوجئ المصريون بربيع ياسين يرتدي شارة القيادة أي جلوس جمال بديلا"، وأحاديث مقتضبة عن المدير الفني للفريق محمود الجوهري، وسرد لتشكيل الفريق ومشواره بالتصفيات.
صفحتان للمنتخب المصري، لم تكن كافيتان أمام أربع صفحات خصصت لكل فريق على التوالي (إنجلترا، آيرلندا، هولندا)، رفقاء المجموعة السادسة، والتي يعد فريقها الإفريقي الوحيد أضعف حلقاتها ولقمة سائغة للجميع.
من هنا تبدأ قصتي.
بعد مباراتنا الأولى مع منتخب إنجلترا في المجموعة السادسة والتي انتهت سلبا دون أهداف كنتيجة إيجابية لجاك تشارلتون الإنجليزي (المدير الفني للمنتخب الآيرلندي)، حدثت صاعقة بباليرمو، مفادها أن الفريق الإفريقي ندا قويا فيما يبدو، فبعد أن توقع الحاسوب الألي خسارته بثمانية أهداف مقابل هدف أمام الطواحين الهولندية أبطال كأس أمم أوروبا 1988، بل من فرط الدقة توقعت محرز هدف مصر الوحيد طاهر أبو زيد، المفاجأة الصغرى أن طاهر لم يلعب اللقاء، والكبرى أن مصر تعادلت بهدف في كل شبكة، بركلة جزاء تسبب فيها المتعب المصري حسام حسن لكومان مدافع برشلونة، وسجلها بنجاح مجدي عبد الغني.
المباراة القادمة ستكون أمام مصر على نفس الملعب، لن تتكرر المفاجأة مجددا، جاك تشارلتون ليس باللقمة السائغة ويفطن لمفاجآت فئران الصحراء (لقب المنتخب المصري على مسمى فرقة فئران الصحراء الشهيرة بالجيش البريطاني إبان الحرب العالمية الثانية).
في نسخة ما قبل شركات بيرتي أهيرن المتخصصة للنقل برا وجوا داخل أوروبا بعد اندماج أغلب شركات القطاع العام والخاص في قطاع رأسمالي واحد، سافرت مع مجموعة من مفوضي الإيرادات بمصلحتي الحكومية من أجل الحصول على تخفيض قد يصل لـ 62% من تذاكر الطيران، صلتي بهم لم تجمعني سوى بالعمل سابقا في مجموعة شركات (Thanks Mike) الشهيرة، كتبنا إقرارات ضريبية تضمن لنا البقاء أسبوعين بإيطاليا عشية ليلة مباراة إنجلترا، رحلة في جو عاصف إلى كالياري بإيطاليا، ثم حافلات تمر بممرات جبلية شرقا نحو سردينيا.
أنا لازلت من الجيل الذي نشأ وتربى بآيرلندا الكاثوليكية، لازلت متأثر بتعاليمي الكنسية حاملا إياها طول الطريق ليبارك الرب لي في المنتخب الآيرلندي أولا ثم بالطريق الجبلي الذي قد تودي حوافه نحو حتفي، فيما بعد رحلة إيطاليا حطمت لدي العديد من الأصنام التي ربطت قدسية الكرة بالتدين، الدعاء للسماء لم يعد كافيا، آيرلندا لم تذهب لنصف النهائي كما دعونا الرب وبارك لنا البابا، ذهبنا لنصف نهائي أمم أوروبا 1988 فقط، والمراد الأكبر كان نصف نهائي المونديال، ولكن جاك تشارلتون برع في تجارته مع رجال الأسماك وتوسع بشركاته التجارية فقط على حساب المنتخب، كل تلك الأوهام كانت أضغاث مشجع انتابتني طيلة الطريق نحو سردينيا.
يتذكر مايك موسجراف ما حدث وقتها: "كلمات جورج هاميلتون لازالت خالدة بأن آيرلندا دوما بالطريق نحو المجد في صيف 1990، صلة جاك تشارلتون الوثيقة ببابا الفاتيكان جعلته يقابله بإيطاليا بكامل الفريق ليبارك له، المباركة شفعت لنا في الدور الأول بمعجزة، وكذلك أمام رومانيا، ولكنها توقفت أمام بلد المنشأ "إيطاليا"، لينتهي أثر مفعول قبلتي جاك تشارلتون واللاعب مايك بيرن على خاتم البابا.
لم يتبق سوى أربعة أيام على مباراة مصر، بينما قابلت أغلب المصريين اللطفاء شخصيا، بعضهم تشارك معي البيرة والتنزه تحت الشمس، عرفت منهم أنهم طلبة ضباط بالبحرية في إيطاليا، استضافتني عائلة مصرية إيطالية في منزلهم، وتشاركنا صور لطيفة لازلت أحتفظ بها حتى الآن.
غذائنا مع أغلب المصريين تشارك في سمك السردين ووجبات الكالاماري المقلية والمقرمشة في نفس الوقت، الكل يتحدث بأمل عن قدرة الفريق المصري في صنع المفاجأة وخطف الفوز هذه المرة من جاك تشارلتون، لم أومأ سوى بابتسامة شاكرا لهم على حسن استضافتهم، راجيا ألا تتغير المعاملة لو حدث المتوقع وبارك البابا لنا وفزنا على مصر.
قبل المباراة بليلتين سافرنا مع أغلب المشجعين المصريين من كالياري إلى باليرمو، بطائرة أعدها لا ترقى لمخلفات الحرب العالمية الثانية، بعد ساعتين سفر رأيت فيها الرعب بعيني، نزلنا من الطائرة ساجدين لتقبيل أرض باليرمو، وبعد السجدة نظرات تحفز استعدادا لحمية المعركة التي ستبدأ غدا بالملعب.
كنت المشجع الآيرلندي الوحيد الذي دخل الملعب باكرا قبل المباراة بثلاث ساعات تقريبا، ومع ذلك رأيت أغلب المدرجات المخصصة للمصريين ممتلئة بهم، فيما بعد عرفت أنها عادة مصرية خالصة بالحضور باكرا هروبا من اكتظاظ الاستاد وصراعات الأمن، التقطت إشارات البث لمباراة إنجلترا وهولندا على المذياع الخاص بي وقد انتهت بالتعادل، مباراتنا الآن مع مصر حاسمة.
الفريقين لعبا بطريقة (park the bus)، مباراة لم أر مثلها من الملل والفتور، أغلب المدرجات الآيرلندية صبت جام غضبها على أسلوب المديرين العقيم سواء هنا أو هناك، أخذت أردد توقعاتي بصوت كله ضجر واعتراض على أداء.
"هيا.. شباب اسمعوا لي الآن.. سأتنبأ لكم بما ستقوله صحافة دبلن غدا، وقعنا بفخ التعادل بسبب إممممممم"
ردد أحدهم: "التحكيم"، والأخر: "الطقس"، وأنا "سأزيد عليكم بالتكتيكات المصرية واللعب الدفاعي العقيم، ولكن لم يذكر أحدكم بكيف أتى هؤلاء إلى أرض الملعب من مباركة البابا بهذا الملل".. وهنا عم الصمت أغلب من حولي مع تفحص منهم إلي لعلي أخبئ زجاجة خمر في بنطالي وتسللت بها إلى هنا لألقي حجرا نحو تلك البركة الراكدة.
الحقيقة أن مصر خرجت بمرادها من المباراة، بل كادوا أن يخطفوا هدفا أخر بتسديدة من لاعب مطلق لحيته رقم 8 صاحب هدفهم الأخير أمام هولندا، ولكن عبثا انتهت المباراة صوب التعادل.
رحلة بعدها نحو مرازامبي جنوب جزيرة صقلية ستستغرق وحدها أربع ساعات، بجانبي إيطالي يتقن اللغة الإنجليزية ينقل لي طيلة الطريق تصريحات المدير الفني لمنتخب مصر "محمود الجوهري" بأنه فعل ما أراد في المباراة، وعلى الناحية الأخرى جاك تشارلتون غاضبا وكأنه خسر نصف ثروته في تجارة الأسماك يصب لعناته على الفريق المصري "من أتى بهؤلاء إلى هنا"، ثم بلغ الملل ذروته بأن ترجم لي أيضا إعلان ماكينات حلاقة Gillite.
توقفت رحلتنا صوب تلك الجبال الجميلة والتقطنا الصور التذكارية انا وأصدقائي من مفوضي الضرائب، وبعد الكأس الأخير من الشراب، تمنى كل مننا أمنيته.
"أن يبارك لنا الرب في مباراة هولندا القادمة، وأن نصل لنصف نهائي كأس العالم، وأن يقبل جاك تشارلتون خاتم البابا مجددا داعيا بأن لا تصل مصر لكأس العالم مرة أخرى".