يُعرف تشارليز داروين التطور على أساس أنه التغير في السمات الجسمية المتوارثة بين الكائنات الحية مع الوقت ما يؤدي لإنتاج أنواع متعددة، أو إحداث تغييرات في النوع الواحد للكائنات الحية.
ليوناردو بونوتشي
النادي : فنرباهتشة
حينما توفي داروين في 19 أبريل 1882 كان قد مرت عشرة أعوام فقط على أول مباراة كرة قدم رسمية على صعيد المنتخبات المنتخبات وطرفيها إسكتلندا وإنجلترا. لم يعرف العالم البريطاني بالتالي الكثير عن الساحرة المستديرة. لم يشهد كل المتغيرات التي طرأت على اللعبة بشقيها الهجومي والدفاعي. لم ير ليوناردو بونوتشي.
لو كانت هناك نظرية تطور تخص الشق الدفاعي في كرة القدم، لقيل عن تعريفها إنه التغيرات في السمات العقلانية والتكتيكية في عقول المدافعين ما يؤدي لإنتاج أنواع مختلفة منهم واستحداث وظائف مختلفة لهم. كان بونوتشي ليصبح موضوع البحث العلمي للكثير من المهتمين.
- على مر العصور:
قلما يبدى "الفيلسوف" بيب جوارديولا إعجابه بأحد اللاعبين علانية، لكنه لم يبخل أبدًا على بونوتشي بالثناء بل أنه وصفه في فبراير 2016 كواحد من لاعبيه "المفضلين" على مر العصور.
قد يتساءل البعض عن السبب الذي دفع بيب لاستخدام هذا الوصف، خاصة وأن الأمر يتعلق بمدافع. لا ترتبط المسألة هنا بأحد أبناء لا ماسيا ومهندسيها في خط الوسط أمثال تشابي إرناندث أو أندريس إنييستا. لا تتصل بليونيل ميسي الذي يضعه جوارديولا في منزلة تفوق أي لاعب على وجه الأرض.
ترتبط صورة المدافع القوي في ذهن الأغلبية برجل صلد طويل القامة، دائمًا ما تثير ملامحه شيئًا من الخوف في قلوب خصومه. لا بد من أن يتحلى بنوع من العنف. هو رجل لا يتوقف عن العرقلة والانزلاق لاستخلاص الكرة من المنافسين. تقول الصورة النمطية أيضًا أن أغلب قلوب الدفاع مُجرمين في طريقة لعبهم. ربما تنطبق بعض هذه الصفات على بونوتشي لكن ليس أغلبها، فهو في النهاية آخر الحلقات في تطور المدافعين.
تدور الوظيفة الأساسية للمدافع حول منع الخصم من التسجيل. مهارة الـ"tackling" هي السلاح الأساسي للقيام بهذه الدور وتأتي بعدها ربما مسألة تشتيت الكرات. يرى البعض بناء على أرقام إحصائية أن أفضل المدافعين هم من يمتلكون أعلى معدلات في هذين الشقين، لكن بونوتشي لا يدخل أساسًا في قائمة أكثر 10 لاعبين تشتيتًا للكرات أو العرقلة من أجل الحصول عليها في الدوري الإيطالي هذا الموسم . ما يميز بونوتشي حقا هو قدرته على قطع الكرة دون الحاجة للانزلاق على العشب الأخضر. أحيانًا- بل غالبًا- قد تكون الأرقام خادعة، ولكي يعرف المرء حجم وثقل اللاعب الحقيقي، يجب عليه مشاهدته. يجب ألا يتوقف الأمر على مشاهدة أرقامه، بل رؤيته يلعب.
يقول أندريس إنييستا نجم برشلونة والمنتخب الإسباني في كتابه (لعبة حياتي) في وصف هدفه التاريخي في مرمى هولندا بنهائي كأس العالم 2010 بجنوب أفريقيا "يجب أن تصبر و تنتظر اللحظة المناسبة لتتلقي الكرة جيدًا، حينها تصبح أنت الآمر، حينها كنت أنا الآمر. كانت الكرة هي تفاحة نيوتن، وبالتالي أنا نيوتن نفسه. وجب علي انتظار تفعيل قانون الجاذبية".
بونوتشي ليس إنييستا. لا في طريقة اللعب أو المركز، لكن طريقته لا تعتمد على التهور أو العنف المبالغ فيه كأغلب بني جلدته من المدافعين، لكن يعد الاستباق من أهم مميزاته. يعرف كيف يصبر وينتظر اللحظة المناسبة ليقطع الكرة جيدًا. حينها يصبح هو الآمر. يصبح هو تفاحة نيوتن التي تسقط لقطع الكرة جوًا وأرضًا.
- من يحتاج إلى بيرلو؟
"من يحتاج إلى بيرلو حينما تمتلك بونوتشي"؟ تغريدة أطلقها الصحفي الإنجليزي جيمس هورنكاسل بعدما سجل جاكيريني الهدف الأول للـ"أتزوري" في مرمى بلجيكا بكأس الأمم الأوروبية يورو 2016.
قبلها بدقائق كان أغلب لاعبي الفريقين في نصف ملعب بلجيكا. يوجد لاعب أو اثنان قريبان من بونوتشي، أحدهما بلا رقابة، لكن المدافع الذي يقف عند خط منتصف الملعب تقريبًا يرسل تمريرة علوية طويلة ، وبعد حوالي 40 مترًا قضتها الكرة في الهواء تصل إلى جاكيريني الذي يتسلمها ويسكنها الشباك.
هل كان الأمر مجرد صدفة؟ لا يعتقد الصحفي الإيطالي فرانشيسكو باولو جوردانو هذا الأمر حيث يقول في إحدى مقالاته بمجلة (بانينكا) الإسبانية "أراقب بونوتشي في ملعب التدريبات. واحد من أوائل الأمور التي يفعلها هي التسديد على المرمى من دائرة نصف الملعب، لكن في هذه المرة لا أحد ينتظر الكرة، التي تثب في المنطقة وتصعد فوق العارضة. يضع بونوتشي يديه فوق رأسه مازحًا. أفهم الأمر الآن. كان يحاول أن ترتطم الكرة بالعارضة. نعم! كان يحاول فعل هذا من منتصف الملعب. حينما شاهدت مدى قربه من تحقيق الأمر. تخيلت أنه دائما ينجح في هذا، وأن هذه اللعبة أمام بلجيكا لم تكن مجرد صدفة. كان هناك فترة يؤخر فيها بيرلو مركزه ليصبح قريبًا من خط الدفع ليحظى برؤية أفضل للعب. كرة القدم الآن، تطورها، يفرض بناء اللعب بصورة أكبر من الخلف. ما الحاجة إلى بيرلو، إذا كان بونوتشي موجودًا؟".
أظهرت اليورو أن بونوتشي دخل في طور الاكتمال نحو ظهور فصيلة جديدة من المدافعين، ليس فقط بسبب هذه اللعبة بل قدرته الجلية على بدء اللعب، فنياته، استباقه، أستاذيته في قراءة المواقف. مهاراته في بناء اللعب ليست تدنيسًا لصورة المدافع التقليدي، بل مكمل مهم وضروي لها. حينما يمتلك فريق صانع ألعاب خفي في دفاعه. يمكنه ضرب كل خطوط الخصم بتمريرة علوية واحدة، فهذا شيء لا يمكن رفضه.
- بونوتشي في مرآته:
قد يكتب المرء أحيانا آلافًا مؤلفة من الكلمات حول لاعب ما، لكن في النهاية لا يوجد ما هو أفضل من أن يتحدث المرء عن نفسه. لا يوجد ما هو أفضل من أن يتحدث بونوتشي عن بونوتشي.
يرى بونوتشي، في حوار أجرته معه مجلة (بانينكا) الإسبانية معه ونشر في 30 مايو 2017، أن دور المدافع في الوقت الحالي لا بد وأن يختلف كثيرًا عما كان عليه الأمر في الماضي حيث يقول "أعتقد أن دور المدافع أصبح أكثر اكتمالًا من الماضي. يجب أن يعرف كيف يلعب بالكرة ويبدأ اللعب. الأمر لم يعد يرتبط فقط بالرقابة. الخصائص التقليدية مثل رقابة رجل لرجل بدأت تتضاءل، لكنها لا تزال مهمة. التغير الأساسي يشمل مرحلة الاستحواذ على الكرة وتلبية رغبة المدرب في البناء من الخلف".
قد يتساءل البعض عن السبب الذي أدى لامتلاك بونوتشي مثل هذه الرؤية التي طورها بالتدريب لكن الرجل يجيب في نفس الحوار على الأمر "لدي ماضي كلاعب وسط وساعدني كثيرا في رؤية اللعب بصورة مختلفة. القدرة على رؤية اللعبة القادمة بشكل مسبق تأتي عبر قراءة يجريها المخ. اللعب العمودي، الطويل، تلك الكرة التي تتسلل وتضرب الدفاع.. ضايقتني رحلة تحولي من لاعب وسط إلى قلب دفاع قليلًا، لكن يجب أقول أن ما حدث معي كان نعمة".
تقول نظرية "تأثير الفراشة" إنه إذا حركت فراشة جناحها في الصين، فإن الأمر قد ينتج عنه إعصارًا في نيو مكسيكو، ويوم السبت المقبل قد تكون فراشة حركت جناحها في إيطاليا ودفعت بلاعب من خط الوسط إلى الدفاع، سببا في إعصار بملعب الألفية بكارديف يطيح بآمال ريال مدريد في الحفاظ على لقب دوري الأبطال. ربما- فقط ربما- يحدث هذا بسبب دور لاعب اسمه ليوناردو بونوتشي.