"سوف أخبرك بشئ، أنا أنحدر من نفس أصول هيربرت كيلبين مؤسس ميلان" هكذا بدأ جايمس كيلبين حديثه في إحدى الحانات الإنجليزية لمن يجاوره.
جايمس يمثل الجيل السادس الذي أتى من جد هيربيرت الأكبر والذي ولد في حدود العام 1790 ولكن مع توالي الأجيال وتتابعها لم يهتم أحد بتتبع المسار الذي سار عليه أحد أعظم الشخصيات المنسية في تاريخ كرة القدم والذي كان السبب في ميلاد عملاق كروي يسمى ميلان.
قرر جايمس ومعه أخيه سيمون تتبع رحلة قريبهم الذي حتى 2013 كانا لا يعرفان عنه سوى أنهم يحملون نفس لقب العائلة التي تأتي أصولها من مدينة نوتينجام الإنجليزية بل إن جايمس نفسه لم يكن يعرف أن عائلته من هناك بعد أن انتقل أجداده سابقا إلى مدينة باكينجامشاير.
هناك في 191 شارع مانسفيلد بنوتينجام يوجد صورة على أحد الجدران لهيربيرت كيلبين بالزي الأحمر والأسود والشنب الشهير رمز العائلة، تشابه تلك الصور ما يرسم لتشي جيفارا على جدران المنازل في الدول التي تعتبره رمز النضال للحصول على الحرية.
كان التاريخ يشير إلى 24 يناير 1870 عندما رزق الجزار إدوارد وزوجته سارة بطفله السادس ليقرران إطلاق اسم "هيربيرت" على طفلهم الذي تربى في هذا المنزل الذي ظل لأعوام طويلة بعد ذلك خاليا من السكان إلا من جزارة ذبح "حلال" فتحت لتعيد أمجاد جزارة والده في الزمن الماضي قبل أن يتم هجر المنزل ويترك كما هو مغلق ومعتم من الداخل.
أكثر من مائة عام مرت على وفاته لم يعلم أحد عنه شيء إلا أن قرر أحدهم البحث وراءه وإعادة إحياء الرمز الإنجليزي الذي قام بتأسيس نادي ميلان لكرة القدم والكريكيت في إيطاليا بنهاية عام 1899 ويلعب به حتى اعتزاله.
ثلاث بطولات في عشرة أعوام كان هيربيرت هو السبب فيها وصوره كلها تشير إلى شارب ضخم وقميص أحمر في أسود ألوان ناديه الذي أسسه بجانب قبعة يرتديها على رأسه كل ذلك اختفى وبهت حتى جاء العام 1999 عندما قرر أحدهم إعادة الألوان والحياة إلى الرسومات مرة أخرى.
توقف الأتوبيس أمام منزل كيلبين لينزل جايمس وسيمون للسؤال عن محل إقامة هيربيرت، بجانب منزله كان يوجد محل بقالة استقبل البائع فيه سؤالهم عن هيربيرت بإبتسامة متوترة تنم عن جهله بالشخص الذي يتحدثون عنه.
الرحلة استمرت من المنزل المهجور إلى مصنع توماس أدامس لإنتاج أربطة الأحذية الصناعة الأشهر في المدينة هذا كل ما يُعرف عن حياة هيربيرت في أنجلترا.
قامت صحيفة لو سبورت إيلستراتو بنشر بعض المقطتفات من مذكرات الإنجليزي كتبها في فبراير 1915 أظهرت حبه لكرة القدم منذ الصغر وتحديدا مع بداية عامه ال13 عندما كجناح أيمن في أحد الساحات بالمدينة مرتديا قميصا لونه أحمر المفضل له قبل أن يلعب في بعض الأندية في الدرجات الأدنى.
معلومات قليلة فقط هي المعروفة عن حياة هيربيرت في نوتينجهام ولكنها كلها تؤكد أنه كان متيما بكرة القدم ولعبها.
في المصنع ألتقى هيربيرت بصديق إيطالي هو إدواردو بوسيو تاجر الأقمشة القادم من تورينو حيث سهل له الأخير رحلة الذهاب للبحث عن عمل أفضل في إيطاليا وإقليم تورينو ونقل خبرته إلى إيطاليا الصاعدة بقوة في عالم الصناعة في ذلك الوقت.
هناك تجمع هيربيرت وبوسيو ليس فقط في التجارة والعمل بل أيضا في حب كرة القدم فشكلا سويا فريق إنترناسيونال تورينو فكان هيربيرت أول لاعب يشتهر أنه أحترف اللعبة خارج بلاده.
قبل رحيلهم عن نوتينجهام ذهب جايمس وأخيه إلى حانة "كيلبين" حيث تقف صورة قريبهم الشهير معلقة في وسط الحانة بشاربه الكبير والشراب الأفضل هناك هو "جعة كيلبين".
في الحانة كان ينتظرهم الكاتب روبيرتو نيري الذي أحيا ذكرى هيربيرت بكتاب كامل عن قصة حياته سماه "سيد ميلان" جمع فيه نيري المتاح من المعلومات والقصص عن مؤسس ميلان ووضعها في كتاب واحد حتى لا تضيع أكثر مما ضاعت في السابق.
نيري الذي يعمل محامي أخبرهم "كنت أقرأ الصحيفة المحلية في نوتينجهام عندما قرأت معلومة أن مؤسس ميلان يأتي من هنا فقررت أن أعيده إلى الحياة".
"لقد قمت بجمع المذكرات التي كتبها للصحيفة الإيطالية بجانب بعض تقارير المباريات والمعلومات المتاحة حوله ولكنها لم تكن كافية فقررت إكمال القصة بنفسي وسد الثغرات في قصته، بالتأكيد ليس خيالا لقد قضيت تسع سنوات أدرس شخصيته وكل ما تم كتابته كان ليصدر منه".
وأكمل نيري حديثه "لإثبات حبه لكرة القدم فيكفي أن تعرف هذه القصة التي حدثت بالفعل لقد كانت ليلة زفافه عندما تم دعوته للعب مباراة في مدينة جنوى في اليوم التالي فما كان من كيلبين إلا أن أن سافر صباح اليوم التالي لزفافه من أجل لعب المباراة".
"لقد أخبر زوجته حينها بأنه تزوجها لأنها تتفهم حبه وشغفه بكرة القدم".
صدر كتاب "سيد ميلان" في 2016 في الذكرى المائة لوفاة صاحب القصة.
قرر جايمس وسيمون إكمال مسيرة البحث عن تاريخ هيربيرت من حيث بدأ الجزء الثاني من حياته في إيطاليا ومدينة ميلان التي أنتقل إليها من أجل العمل بعد فترة قضاها في تورينو، هناك لم يجد هيربيرت مكانا ليمارس هوايته المفضلة فكان عليه السفر دائما إلى تورينو للعب هناك.
قرر هيربيرت حينها أنه سيؤسس ناديا لكرة القدم ولعبة الكريكيت هناك فكان الظهور الأول لفريق ميلان والألوان الرسمية للفريق هي الأسود والأحمر المفضلان له.
في ميلان وقف الأخوان أمام الكنيسة الكبرى بقلب المدينة والكاتدرائية الكبرى التي تقف هناك شاهدا على حلم جيان جاليازو فيزكونتي الملقب بـ"سيد ميلان".
كلاهما سيد للمدينة فجاليازو أمر بتزين جدران الكاتدرائية الكبرى على الأسلوب الفرنسي فأعطاها الرونق الذي يستحقه وهيربيرت على الجانب الأخر كان يقيم أحد أكبر الأندية في العالم.
هناك ألتقى الثنائي في قلب المدينة بلويجي لا روكا وهو الشخص الذي وجد قبر كيلبين المنسي في 1998 "لقد وجدته مدفونا في الأماكن المخصصة للبروستانت تحت الأسم الإيطالي الذي تم إعطاءه أياه "ألبيرتو كيلبين"".
"لقد وجدت الأسم وفتحت القبر لأجد صندوقا صغيرا أملت أن أجد بداخله شيء عن ميلان ولكني لم أجد سوى العظام" قص علينا لا روكا المتيم بحب ميلان حكايته.
كان ذلك سببا في نقل رفات اللاعب إلى المدافن الرمزية بمدينة ميلان حيث وضع أسمه وسط أسماء العظماء الذين دفنوا في تلك المدافن ولكن يظل حلم لا روكا بأن يتم نقل رفات أسطورته إلى مكان أقرب إلى قبر الأسطورة الأخرى في المدينة جوزيبي مياتزا الذي لعب للغريمين إنتر وأي سي ميلان خلال مسيرته.
على قبر كيلبين يوجد وشاح لميلان ملفوف عليه وعبارة كتبت بالحبر الأسود "ألواننا ستظل الأحمر لأننا سنكون شياطين والأسود لأننا سندخل الرعب في قلوب منافسينا".
عملية نقل قبر هيربيرت لمكان أخر ليس قرارا ماديا ولكنه سياسي في المقام الأول.
"الجمهور الصغير لا يعرف من هو كيلبين، هم لا يهتمون بالتاريخ لذلك لن تجد الكثيرين الذي يعرفون عن من تتحدث" أتفق لويجي لا روكا في تلك المقولة مع ماركو أماتو الذي ألتقى بنيري الكاتب في وقت سابق بعد إصدار كتابه.
أماتو هو المسؤول عن متحف نادي ميلان وإصدار الكتاب "سيد ميلان" كان في متحف الفريق نظرا لإهتمامه بتاريخ الفريق ورغبته في تعليم الأجيال الصاعدة أكثر عن المؤسسين حتى ينتشر تاريخ الفريق بين كل الجماهير وليس فقط المتيمين بحب الفريق في الكورفا سود.
ننتقل في الرحلة إلى "أرينا سيفيكا" ملعب نادي بريرا في الدرجات الأدنى الإيطالية والذي أسسها نابوليون في 1807 كساحة على الطراز الروماني لتتحول إلى مكان مارس فيها هيربيرت كرة القدم ودخن بداخلها السجائر وأحتسى الويسكي إما أحتفالا بالفوز أو في محاولة لنسيان خسارة مؤلمة ففي كلا الحالتين لم تكن السيجارة والويسكي يفارقان يد اللاعب.
البعض من جماهير ميلان تعتبر كيلبين هو رمزها الذي حاولت رفعه لمحاربة مالكها السابق سيلفيو بيرلسكوني فكانت صورة كيلبين ترفع في مدرجات الكورفا سود إعتراضا على بيرلسكوني وإدارته للنادي كأحد مشروعاته الإستثمارية وليس حبا بشغف الأحمر والأسود الذي أطلقه كيلبين إلى النور.
في 2005 رفعت صورة لكيلبين في المدرجات وفي 2006 هاجمت بعض الجماهير إدارة الفريق لأنها أحتفلت بالذكرى ال20 لتولي بيرلسكوني مليكة النادي وتجاهلت مرور 90 عاما على وفاة مؤسس الفريق الذي بدونه لم يكن ميلان ليكون موجودا لسيلفيو وعائلته.
كما رفعت الجماهير في 2013 صورة لكيلبين بجانب عبارة "نحن التاريخ" في إحدى دخلاتها قبل إنطلاق مباريات الفريق.
عدم معرفة الكثير من جماهير ميلان لمؤسس فريقها لم يدهش جايمس كيلبين "لقد كان شئ متوقع ألا يكون معروفا للجميع".
"لكن لويجي وبعض من الجماهير تكن له كل الأحترام والحب والتقدير لأنه أسس ناديهم المحبب لهم فكرة القدم أعطت بعض الفخر للطليان وميلان كان أحد الأسباب".
تزوج هيبريرت في 1905 من الإيطالية ماريا كابيوا وساهم ذلك في إعتباره لاعبا إيطاليا فلم ينطبق عليه قرار منع اللاعبين الأجانب من اللعب في إيطاليا ولكنه كان حزينا لرؤية الإنقسام يصدع الفريق الذي أسسه وهو يرى نجومه الأجانب يتمردون ويتركونه لتأسيس الغريم "إنترناسيونال".
كان يذهب وحيدا لمتابعة مباريات فريقه ميلان من خارج الملعب بعد إعتزاله واضعا يديه في جيبه ليعيش في عالمه الخاص وهو يرى النادي الذي ولد على يديه يحقق الإنتصارات من بعده.
"رائد كرة القدم الإيطالية قد مات" هكذا أعلنت صحيفة لا جازيتا ديللو سبورت وفاة هيربيرت في 1916 عن عمر ناهز ال46 عاما بسبب السجائر والويسكي التي قضت على صحته مبكرا فتوفي قبل أن يترك خلفه إرثا ليحكى عنه ولم يكن له أولاد لرواية أو إكمال قصته.
رحلة جايمس وسيمون كيلبين انتهت داخل متحف ميلان حيث يخلد هيربيرت ودعهم خلالها ماركو أماتو قائلا "أهلا بكم في أي وقت ميلان هو منزلكم"