كتب : خالد يوسف
"شروق الشمس أقرب من حدوث ثورة في هولندا.. ليس أمامنا إلا الاشتباك فقط لا غير، لكننا سنصبح كمن يضربون رؤوسهم في حائط جرانيتي صلد من الانحطاط.. لهذا أفضل ما يمكننا فعله هو التحريض.. أفضل ما يمكننا إثارته هو الاستفزاز".
رويل فان دوين قائد مجموعة البروفو الأناركية، يتحدث بلسان المتمردين على النظام الهولندي في منتصف الستينات.
--
في ذكرى وفاته الأولى، يسرد لكم FilGoal.com كلمان كُتبت في حب يوان كرويف أسطورة الكرة الهولندية.
هذه الكلمات جاءت مع صفحة 15 من كتاب لمن يبدو أنه مجرد طائش إنجليزي مفتون بهولندا.
تلك الحالة التي كانت عليها هولندا تجعلك غير قادر على مقاومة التفكير بشكل تلقائي في منظر حي مدينة نصر من النافذة في منتصف الثمانينات، بلد رمادي، يبدو ثقيلاً في آخر أيام الشتاء.
بلد صامت فيما عدا الألوان الزاعقة للوحات متفرقة في كل إشارة مرور للزعيم الجديد في سنوات حكمه الأولى، حالة من السخف المتنكر، امتدت لتكسو الشيء الملون الوحيد الجمعي آنذاك، ملاعب الكرة التي كانت تستضيف مباريات دوري ناري، ومباريات منتخب يبدو وقد تم اختطافه تحت شارة “حب مصر”.
عروض المظلات العسكرية، الموسيقى النحاسية لماراثون أغاني ياسمين الخيام وشادية، بالونات بالألوان الحمراء والسوداء والبيضاء، مدرج ثالثة يمين محجوز لمجندين ملزمين بالتشجيع الإجباري.
هناك صورة زيتية أخرى زاعقة للقائد الجديد أعلي الملعب في المنتصف تماماً، وكأنها تراقب كل شيء من أعلى نقطة للملعب.
حالة الهروب الوحيدة من هذا الموقف الاحتجازي كان ممثلاً في شاب لم يكمل الثلاثين من عمره آنذاك يرتدي القميص رقم 10 برفقة الأهلي، محمود الخطيب آنذاك كان أداة التعبير الشعبية الأبرز، عفوية خارج السياق ، فقط يمكنك الانصات لصياح 80 ألفا شهدوا قطعة فريدة من نوعها عقب هدف الخطيب بـ”كعب غير ضروري” إطلاقاً أمام فريق دراجونز كيميه البنيني عام 1985.
الخطيب كان يمتلك كل الحلول لإحراز هدف مؤكد، ولكنه اختار الحل الأكثر إمتاعاً. ضربة فرشاة غاية في العذوبة تكسر إيقاع الللوحة الزيتية القبيحة.
كرويف.. وكتاب وينر
على نفس النحو، يوان كرويف يحتل الصفحات الأولى من كتاب ديفيد وينر بالغ الثراء عن افتنانه الشخصي بالكرة الهولندية، كحالة كسر ضرورية لجيل بأكمله في مطلع الستينات أراد أن يمر على الخمسينات بممحاة جديدة.
كتاب وينر هو محاولته المجنونة لتشريح هولندا عن طريق فلسفتها الكروية.
وينر اختار أن يكون كتابه أشبه بمنطاد متمهل يطوف فوق بلد يبدو مصمماً بمجموعة من الأدوات الهندسية العملاقة.
لا يمكنك التفريق بين ما هو طبيعي وما هو مصنوع في هذه الأرض. بلد تجريدي تبدو فيه النقاط، الخطوط، المسطحات وكأنها من تصميم فرشاة موندريان. بلد عملاق منخفض عن سطح البحر، تمت هندسته بناءً على عوائق طبيعية، ولكنها عوائق فاتنة، أغلبها خلاب للعقول.
منطاد وينر يجوب جغرافيا وتاريخ هولندا انطلاقاً من ملاعبها. بحثاً عن إجابات مستحيلة عن أسئلتها الأكثر صعوبة، (لماذا يسقط الهولنديون فريسة لركلات الجزاء تارة ، ثم ضحايا لعجرفتهم الخاصة تارة أخرى؟ كيف تحولت أمستردام الكئيبة في الخمسينات إلى فردوس للثقافة المضادة في أقل من 10 سنوات؟
بلد غير مهم
إنها نفس المدينة التي أنتجت كرويف، طفل ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي كان رمزاً لجيل تغيير حقيقي، كما يحاول وينر توضيحه في فصوله الأولى من “العبقرية العصابية للكرة الهولندية".
الكاتب اليساري ماكس أريان يصف أمستردام بأنها كانت مكاناً "فائق الملل"، "كل الجاذبية الحسية التي تشتهر بها المدينة حالياً كانت سراباً حتى الخمسينات، كانت رمزاً لبلد محدود التفكير، عتيق الطراز، غير مهم، بلدا رماديا، صغيرا، متطهرا".
كل شيء كان ثقيلاً: الموسيقى، الأدب، الثقافة، كل شيء كان مثيراً للضجر.
وينر يسجل صعود فريق آياكس بنسقه الثوري برفقة مدربه رينوس ميتشلز جنباً إلى جنب الحركة الطلابية التي أنتجت تحولاً درامياً تجاه اليسار في نهاية عام 1962.
بروز حركتي البروفو والكوبتوبرس الأناركيتيين، بأهدافهما التي تحاول استفزاز السلطة أكثر من الدخول في صدامات مباشرة للتغيير على أرض الواقع.
وينر يعتبر أن أمستردام عاشت “صحوة 1968” الخاصة بها عام 1966 ، مع إفساد حفل زواج الأميرة آنذاك بياتريس، والذي مهد الطريق لظاهرة عمالية بعدها بأسابيع بداعي تغيير قانون الأجور في العطلات الرسمية.
حركات الصيف الاستفزازية من البروفو أسفرت عن إقالة خيس فان هال عمدة أمستردام ، أحد قادة المقاومة الهولندية، من منصبه إلى جانب فان دير مولين رئيس جهاز الشرطة ، للمرة الأولى بدا أن هناك شيئاً ما يحدث في العاصمة منذ انتهاء الحرب.
ميدان دامٍ أصبح محراباً للهبيز والثقافة المضادة ، كرة القدم كانت حجراً مهماً من ذلك التغيير ، علاقة مباشرة باهتمام الجيل الجديد بكل ما هو جسدي، ما هو حركي.
مارتن هاجر أستاذ العلوم السياسية يدرك هذا الشعور: "كرة القدم كانت تعبيراً عن شعور جديد بالتحرر من سلطة قديمة ، مشاهدة أسماء لها كاريزما حقيقية مثل كرويف، كرول ، فان هانيجيم، فيم سوربيير ، وهم يصنعون شيئاً جديداً إلى جانب رمز سلطوي مثل مدربهم ميتشلز كان له رمزيته المهمة".
وتابع "كلهم نجحوا بشكل متحرر في الجمع بين نظام العمل الدقيق والحس الفردي الخاص لكل منهم ، لقد عكسوا طابعاً أصيلاً في الشخصية الهولندية ، إنهم يخرجون أفضل ما لديهم عندما ينجحون في الجمع بين قوانين المجموعة المحكمة وبين الفردية الخالصة “.
جانبي العملة
وينر يدرك في الوقت نفسه أن كرويف لم يكن حاملاً لعلم المتمردين الجدد على نحو تقليدي، بل كان وجوده نفسه أهم من حركة البروفو كما يقول الكاتب هوبرت سمييتس: ”كرويف كان أول لاعب يتفهم حقيقته كفنان وليس كلاعب فقط".
وأردف "تجاوز كرويف فكرة استفزاز السلطة بما هو أكثر من شعر طويل، والشراب علناً".
وأوضح "لقد كان رجلاً يحتفي بقيم العائلة، لقد كان شاباً متديناً ، كان من أكثر من تفهموا جانبي العملة في الستينات".
وأضاف "لم يكن يقتصر هدفه على استفزاز السلطة فقط ، كان يطمح إلى ما هو أكثر ، إلى إشباع طموحاته المادية والشخصية كفرد”.
وينر يضع لاعبي الكرة الهولنديين جنباً إلى جنب بيتر يانز ساينردام، أفضل من صوّر كنائس وكاتدرائيات هولندا في القرن السابع عشر، الخطوط القاطعة الحادة، المنظور المبتكر، المفاجآت البصرية، حالة من الدقة والاهتمام بالتفاصيل ، وينر يضع لوحات ساينردام جنباً إلى جنب صور فان دير ميير الفوتوغرافية.
الصرامة
منذ تسعينات القرن الماضي، الرغبة في رؤية الصورة الكلية، بما هو خارج إطار الاهتمام ، الأمر يبدو كمشاهدة دينيس بيركامب برفقة فريقه أرسنال.
رغم هذا فان دير ميير يحذر من ذلك الطابع الحاد في الشخصية الهولندية “رؤية حقول هولندا من الطائرة ترعبني، هناك شعور هندسي رياضي دقيق، المسافات المتساوية بين قنوات الري ، إنه أمر أشبه بالحياة داخل واحدة من لوحات موندريان، أنا أحبه كفنان ولكني لا أريد أن يصبح والدي ، هذا قد يدفعني للجنون".
وتابع "في المدن الجديدة يمكنك ملاحظة وجود تعرجات وتقوسات متبكرة بالمباني، ولكنهم مازالوا يحتفظون بفكرة الـ10 أمتار التي يجب أن تفصل بين كل منزل وجاره بصرامة كاملة”.
وينر يخصص فصولاً كاملة للجانب المظلم من الشخصية الهولندية، منها فصل كامل لواقعة اختيار قائد فريق آياكس عام 1973 بين كرويف وبيتر كايزر، والتي كانت أول مسمار في نعش ذلك الفريق الذهبي.
الإيقاع الديموقراطي البطيء والذي يطرح سؤال “من الذي يقود الدفة في هولندا؟”، حالة الحيرة التي تحيط طابع ذلك البلد الديموقراطي، الرافض طبقاً لتفسير الكاتب المسرحي يوان تيمرز بأن الهولنديين يمقتون القادة السياسيين الأقوياء، لا يوجد قرار سياسي في هولندا تم اتخاذه دون ماراثون حقيقي من المداولات.
إنها الوسيلة الوحيدة للبقاء المشترك على هذه الأرض المنخفضة، وكرة القدم الهولندية لا تبدو منفصلة عن ذلك.
عندما تكون رأسك بارزة من العشب الطويل في هولندا سيسارعون بقطع رأسك، نحن لا نحب الأشخاص فائقي النجاح هنا، لهذا الكثيرون لا يحبون رود خوليت، نحن نحب الأشياء أن تكون في نفس مستوى سطح البحر، الثقافة، البلد نفسه، نحن لا نحب التضاريس المرتفعة.
الجانب المظلم
الجانب المظلم في كتاب “العبقرية العصابية للكرة الهولندية" يمتد لحزمة الأسئلة التي تطرحها مباراة واحدة مثل خسارة نهائي كأس العالم 1974 أمام ألمانيا ، عن ميل الهولنديين للتدمير الذاتي ، العجرفة ، عدم امتلاكهم للرغبة في حسم الأمور.
كراهيتهم المتأصلة للألمان، عقدة الذنب تجاه دورهم أثناء الحرب العالمية الثانية ، دور المتعاونين الهولنديين مع النازية، العمليات المنظمة من قبل البوليس المحلي لتسليم الهولنديين اليهود للقطارات المتجهة لأوشفتيس، أو كما قال الكاتب والمؤرخ فون دير دونك “كان هناك متعاونون وكانت هناك مقاومة ، ولكن الأغلب كانوا في مقاعد المتفرجين ، حتى رغم مشاعرهم الكارهة للألمان”.
حقيقة التأثير اليهودي بنادي آياكس الذي يشغل مساحة مهمة داخل الحي اليهودي القديم، البهجة في المدرجات التي تخفي موتاً داخلياً بالمشجع الهولندي لا تزيله المساحيق البرتقالية التي تزين وجوههم ، أن يصبح الفوز على الألمان طبقاً للكاتب سايمون كوبر في هامبورج بنصف نهائي يورو 88 تعويضاً عن مقاومة لم تاخذ حقها وانتصارا لحرب لم نتمكن من الفوز بها في وقتها.
صوت ركل الكرة
"العبقرية العصابية للكرة الهولندية" كتاب يترك نفس الشعور التلقائي بالافتنان بكرة قدم لها خصوصيتها الشديدة في التعامل مع فكرة المساحة ، الضغط على الخصم ، بل خنقه تماماً (أمام أوروجواي والبرازيل في مونديال 1974نموذجاً) ، المراكز المتحركة ، الديناميكية ، توظيف المهارة داخل إطار المجموعة ، والأكثر أهمية ذلك التفسير الخاص لكرة القدم كفكرة.
الكتاب يعود مع صفحة 135 ليعود بالذاكرة للوراء لنهاية الثمانينات ، التعرف على مدرب كرة هولندي بالصدفة في ملعب أخضر عادي وسط غابات بلدة شوبرون الواقعة بين الحدود المجرية والنمساوية.
المدرب كان يركل الكرة ويردد بأن عليهم الاستماع لصوت الكرة وهي يتم ركلها، حيث يمكنكم معرفة مواقعكم ، أنصتوا للكرة ، تلك الذكرى تتقاطع على نحو مريب مع ما يؤكده النحات الهولندي يورين هينيمان متحدثاً عن تفسير الهولنديين لكرة القدم من منظورهم الخاص “بالنسبة لنا المتعة هي في أن تسير الكرة على العشب ، أن تتقوس، أن تتخذ أشكالاً متعددة ، كأحجار في طريقها للفردوس".
يوان كرويف كان يحكم على اللاعبين فعلياً من صوت ركلهم للكرة، من الصوت فقط، نحن نحب ذلك الصمت الذي يتيح لنا سماع الصوت ، تماماً مثل الجولف، إنه صوت رائع.
"بالنسبة للفنان التشكيلي فيرميير فهو مهتم بقطعة اللؤلؤ المتدلية من الأذن ، إنها الهدف الرئيسي من اللوحة، تماماً".
--
الموضوع من عالم الكتاب..