من مذكرات الحرب اليوغوسلافية.. كرة القدم والقومية في البلقان
الأربعاء، 22 مارس 2017 - 20:04
كتب : خالد وهبة
تعرفت أوروبا بالكامل على الجانب القبيح للتواجد الجماهيري عن طريق "الهوليجانز" في بريطانيا، ويبدو أن انتقال تلك العدوى عبر أرجاء القارة العجوز منحها شراسة أكثر حتى تأثر بها الشباب في شرق أوروبا، ونقصد هنا منطقة البلقان بالتحديد، عندها تحولت الأمور.
وبما أنها منطقة تختلف كثيرا اقتصاديا، سياسيا واجتماعيا عن بريطانيا والدول الأكثر استقرارا في القارة، كان الأمر مختلفا أيضا بالنسبة لجماهير الكرة التي جلبت للملاعب والشوارع الكثير من السياسة والعنف، منها الحادث الذي وقع في مثل هذا اليوم عام 1992 والذي يستعرضه معكم FilGoal.com في هذا التقرير.. ولكن علينا في البداية أن نعود إلى الخلف قليلا لتظهر لكم الصورة الكاملة.
خريطة تقسيم جمهورية يوغوسلافيا
يوما ما كان هناك ما يسمى بجمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية الاتحادية أو يوغوسلافيا، ضم هذا الكيان الذي تأسس بشكله الجديد في 1943 دول كرواتيا، مقدونيا، البوسنة والهرسك وأخيرا صربيا والجبل الأسود. ثم تفككت يوغوسلافيا في 1992 وبدأت كل هذه الدول في حربها الخاصة للحصول على الاستقلال الكامل واعتراف الاتحاد الأوروبي.
لكن طرفي الصراع الأقوى -كرويا- كانا دائما كرواتيا وصربيا. في مايو 1990 لعبت مباراة بين سيرفيينا زفييزا (ريد ستار – النجم الأحمر) المنتمي لمدينة بلجراد الصربية ضد فريق دينامو زاجرب المنتمي للكروات حددت بشكل كبير مستقبل يوغوسلافيا السياسي وكانت بمثابة شرارة لحرب الاستقلال.
ما الذي جعل تلك المباراة تكتسب تلك الأهمية؟ قبل أسابيع قليلة شهدت كرواتيا أول عملية انتخابية شاركت بها الكثير من الأحزاب منذ أكثر من 50 سنة، الأغلبية البرلمانية كانت للأحزاب التي تؤيد وتطالب استقلال كرواتيا عن يوغوسلافيا.
شهدت المباراة أحداث عنف وكان يوما عصيبا في مدينة زاجرب خلف 60 مصابا بعد اقتحام الصرب المدرج الخاص بالكروات وبدأ العراك، ثم تدخلت الشرطة -التي كانت تحت سيطرة يوغوسلافيا- واعتدت على الكروات.
لم يكن هذا كل ما خلفه لنا ذلك اليوم العصيب، بل أيضا صورة أيقونية للاعب منتخب كرواتيا الشهير، زفونيمير بوبان، وهو في الوضع طائرا يوجه ركلة بقدمه لأحد المجندين دفاعا عن أحد مشجعي فريق دينامو.
بعدها بأشهر قليلة، في أغسطس تحديدا، بدأت الحرب اليوغوسلافية. لم يكن جمهور الكرة بعيدا جدا، أعضاء مجموعات الأولتراس من صربيا وكرواتيا تواجها مرة أخرى لكن خارج الملعب هذه المرة بعد أن نظموا أنفسهم وتلقوا التدريبات وحصلوا على الأسلحة. سقط الكثير منهم في تلك الحرب وتخلدهم أنديتهم إلى يومنا هذا بتماثيل ونصب تذكارية نظرا لدورهم "الوطني".
انتشر الفكر القومي في منطقة البلقان أثناء الحرب اليوغوسلافية بين العامة ومن بينهم جماهير كرة القدم بالطبع الذين برز دورهم كثيرا خلال الحرب كما ذكرنا سابقا، لكن الأمور لم تتوقف عند ذلك الحد. لم يكن هناك شعورا بالندم أبدا، بل زهو وفخر عظيمين إلى حد كبير.. تحديدا بالنسبة للصرب وخاصة نادي ريد ستار ومشجعيه، ورئيسه.
أخذ ريد ستار مهمة "الخلاص" على عاتقه مع وجود جيليكو راجناتوفيتش على رأس الإدارة للنادي الصربي، يعرف أيضا باسم "أركان".
يمكننا إيضاح ماهية هذا الشخص عندما نكتفي بذكر أنه أخطر مجرمي منطقة البلقان وكان مطلوبا من قبل الإنتربول لإرتكابه العديد من الجرائم قبل، خلال وبعد الحرب اليوغوسلافية ما بين عمليات سرقة وقتل وأعمال إرهابية في دول متفرقة أهمها كرواتيا ثم مناطق المسلمين وهي البوسنة وكوسوفو.
لكن ما يخص النادي الصربي ومشجعيه أنه (أركان) أسس ميليشا نمور أركان العسكرية أو ميليشا الحرس الصربي في أواخر العام 1990 وكان من بينهم بعض من أعضاء مجموعة الأولتراس "ديليا" التابعة للنادي. نمور أركان كانوا على درجة عالية من التدريب وتستطيع تمييزهم بزيهم الأسود، ثم دخلوا الصراع رسميا شرقي كرواتيا في إقليم فوكوفار.
حسنا، لنعد إلى تاريخ اليوم وهو 22 مارس، وهو ذات اليوم الذي شهد قبل 25 عاما من الآن على حدث استثنائي خلال دربي صربيا الأول -والأعنف- بين ريد ستار وبارتيزان.. وكلاهما من العاصمة الحالية بلجراد.
بارتيزان كان هو الضيف في هذا اليوم على ملعب "ماراكانا" الذي يتسع ل60 ألف مشجعا، وزحف خلفه أنصاره ومجموعة "جروباري" التابعة للنادي. أما ريد ستار ومجموعة "ديليا" فقد كانا على أتم الاستعداد لاستقبال خصمهم المباشر خارج وداخل الملعب بعنف معتاد.
فور انطلاق المباراة، تجمع أنصار ريد ستار في المدرج الشمالي وبدأوا في توجيه الإساءات لجماهير بارتيزان بإشارات عنصرية وأخرى مسيئة مثل: "مثليون، أتراك، مسلمون، شيوعيون، زنوج". كان كل هذا عاديا بالنظر إلى طبيعة مشجعي كرة القدم في هذه المنطقة من العالم، بل كان من المنتظر أن تحدث اشتباكات عنيفة عقب صافرة النهاية خارج أرض الملعب.
توقف كل هذا الضجيج فجأة. اقتحم 20 فردا من نمور أركان المدرج الشمالي بكامل زيهم الأسود المهيب والجميع ينتظر ماذا سيحدث الآن. دخلت الميليشا حاملة علامات الطرق من إقليم فوكوفار في شرق كرواتيا..
"20 ميلا على فوكوفار"
قام أحدهم برفع تلك اللافتة، ثم مرة أخرى مع لافتة "10 أميال على فوكوفار"، ثم مرة أخرى "مرحبا بكم في فوكوفار". تكرر ذات الأمر مع لافتات تنتمي لمدن كرواتية أخرى.
مع ظهور كل لافتة من تلك التي رفعها نمور أركان داخل الملعب تحولت حلقة السباب المفرغة إلى هتافات قومية تمجد الصرب وتحط من قدر الكروات ومن يواليهم. ثم ظهر أركان في المقصورة الرئيسية للملعب ووقف ليتلقى تحية حارة من الحضور في جميع أرجاء الملعب. الوطن والحرب والسياسة أهم من كرة القدم وأهم منم هذا الصراع الذي بات تافها في أعين الجميع لوهلة.
إيجور تودوروفيتش، معلق رياضي صربي، كان حاضرا في ملعب ماراكانا خلال ذلك اليوم ويتذكر ما حدث قائلا:
"عندما ننظر مرة أخرى على تلك المباراة في ذلك اليوم، نجد أن نتيجة المباراة لم تمن هامة على الاطلاق وهو أمر ساخر إلى حد ما.
كنت هناك وجدير بالملاحظة أن مشجعي الفريقين الذين يكرهون بعضهم بشكل كبير قد هتفوا سويا. لم يحدث أمرا مثل هذا من قبل ولا أعتقد أنه حصل مرة أخرى منذ ذلك الحين.
كنا نحن الصرب متوحدين بفضل النعرة القومية والاتفاق على كره الكروات. إحساس بالقوة صدر من داخل ذلك الملعب كما لو أن جماهير الكرة تغير العالم في تلك اللحظة."
اليوم، يختلف الحال كثيرا. صربيا دولة مستقلة وكذلك كرواتيا. نعم، هناك الكثير من العدواة كما في الماضي، إلا أن الشيء الوحيد الذي تغير في المعادلة هو الهوليجانز ومجموعات الأولتراس أنفسها التي تواجه اليوم إدارات الأندية والشرطة والدولة التي ساندتها وضحت من أجلها يوما ما.
المجموعات ليست بمثل تلك القوة التي كانت عليها خلال فترة اشتعال منطقة البلقان خلال تسعينات القرن الماضي، لكنهم أكدوا لنا يوما ما أن اختلاط الرياضة بالسياسة قد يكون مفيدا بنفس قدر الضرر المحتمل. وأن لا قواعد ثابتة أبدا لهذه الأشياء، قد تنتج عنها جرائم حرب وقد تنتج عنها توحد من أجل الوطن.