تلك الأنا التي تحتاج بشدة أن تصبح "نحن"، أن تشاطر عددا لا بأس به من الأفراد نفس القناعة، القناعة بأنك الأفضل، بأن البقية مخادعون، بأن الحظ لا يلتفت إليكم، بأنك على صواب والبقية واهمون، الشعور بمدى أهميتك، بأن إمتاعك هو الغرض الأساسي، وبكونك شريك أساسي في النصر والهزيمة حتى ولو لم تحرك ساكنا في كليهما..
ذلك هو ما تقدمه كرة القدم للمشجع عن طيب خاطر، بخلاف المتعة التي يتحصل عليها مشاهد كرة القدم فهناك جانب أخر لا يشعر به إلا المشجع، المنتمي بتعبير أدق، ذلك الشخص الذي أصابه الشغف فبات يهمس بدعواته من أجل الفريق ويصرخ فيشق حنجرته احتفالا بهدف ويرتحل إلي مدن لم يراها من قبل من أجل أن يساند فريقه، كرة القدم تكافيء من هم مثل هؤلاء بمشاعر صعب وصفها، تمنحهم ذروة السعادة الممكنة وتتركهم بعد نهاية كل مباراة كرجل وحيد يتسكع في مدينة مهجورة كانت تعج بأحبائه قبل فترة وجيزة.
ولطالما آمنا أن كرة القدم أوقعت الكثير في شرك الشغف بها، فلا شك أن بعضهم تخطى تلك المرحلة وقارب علي الجنون، ذلك أن المتعصبين لكرة القدم يتشابهون كثيرا مع المتأففيين منها، تلك النبره التي تتميز بالمغالاة الواضحة.
مقابل عدد لا بأس ممن يرون أن كرة القدم هي نشاط يسترعي اهتمام الناس دون فائدة ويتذمرون من كم المال التي تحتويه تلك الصناعة غير المنتجة – من وجهة نظرهم - فهناك على النقيض تماما من يرون كرة القدم مسألة حياة أو موت، ربما حملت الكرة لعنة خاصة بها، لعنة جعلت ألمانيا النازية تعتقل وتقتل لاعبين من بقايا أندية أوكرانيا لأنهم فازوا على فرق ألمانيا تباعا، أو ربما لعنة جعلت جماهير أحد الفرق تقتل جماهير الفريق الأخر لا لشيء إلا لأنهم لا يؤمنون بما يروه هم تمام الصواب.
كل ذلك تحملته كرة القدم لأنها تقوم أساسا على مبدأ التنافس وفي كل دول العالم تزدهر الكرة وتتوهج طالما هناك أندية تتنافس فيما بينها وبالتالي مشجعين أيضا يتنافسون، كلٌ بطريقته.
إلا أن الأمر في مصر يأخذ طابعا مختلفا تماما، فالمشجعين في مصر ينتمون بطبيعة الحال إلي قطبي الكرة المصرية الأهلي والزمالك وهو أمر مفهوم تماما إلا أن رؤية الجماهير لبعضها البعض مختلف بصورة معقدة.
جماهير الأهلي تري أنها الأغلبية الكاسحة وأن من هم سوي ذلك واهمون يسعون للحصول علي كأس التميز أو ربما يدركون في قرارة أنفسهم أنهم على خطأ ولكن فات أوان الإعتراف به، والدافع لكل ما سبق هو التباين الواضح في بطولات الفريقين فالأهلي يتفوق على الزمالك بكم ملحوظ من البطولات وإلا فما الداعي أن يشجع أحدهم فريق خاسر وكأن شغف كرة القدم يحتاج إلي دوافع من الأساس، وكأن كرة القدم تلعب فقط لكي تحرز بطولة.
وعلى الجانب الأخر فجماهير الزمالك تري جماهير الأهلي كمجموعة لا علاقة لها بكرة القدم، فقط مجموعة قررت أن تنضم للأغلبية حتي لا تتعرض لأمور سخيفة يتعرض لها الأقلية المميزة بمبدأ "ممارسة الإقصاء أفضل من التعرض له"، وكأن الأهلي بكل أساطيره ولاعبيه الأفذاذ وبطولاته المميزة لا يستحق أن ينتسب له أعداد لا كم لها.
نحن هنا نتحدث عن كلام يتردد كثيرا من جماهير الأهلي والزمالك بالطبع، بعض النماذج وليست كل الجماهير، إلا أن كرة القدم التي تحملت الكثير من السياسة والدم والآراء والتعصب لا يمكن أن تتلخص في مثل تلك الرؤي المعيبة.
قد يكون هناك بعض الصواب في حديث الجانبين فهناك من ينتسب للأهلي لأنه يفوزأكثر وذلك أنه لا يريد من الكرة سوى التنمر على الخاسرين رغم أنه لا يفقه في الكرة شيئا ولكن ليست تلك هي السمة المميزة لجماهير الأهلي ولن تكون، وهناك بالطبع أحدهم ممن قرروا أن تشجيع الزمالك هو الجزء المميز في حياته حتي وإن كانت علاقته بالكرة ترديد بعض الأحاديث عن التحكيم ودور الدولة، ولكن لا يعبر هذا الشخص أبدا عن جماهير الزمالك.
كرة القدم تقدم لنا جميعا ما نحتاج من متعة لمواجهة متاعب الحياة الرتيبة المملة وتتوهج كرة القدم في المشاحنات الدائمة بين الجماهير، تلك المشاحنات المقبولة التي يعتبرها البعض هي متعة كرة القدم في الأساس، إلا أن كرة القدم وتاريخ الأندية والشغف المتعلق بها لا يمكن اختزاله في حكم أو رجل دولة أو كأسا للتميز ، ربما يمكننا تحمل الأمر إن كان لا يعدو أكثر من كونه من قبيل مشاحنات كرة القدم المعتادة، إلا أن الأمر أصبح يتردد بوتيرة متصاعدة حتى أصبحت قاعدة لدى جماهير الفريقين بل وأصبحت تلك التصنيفات التي لا تمت للكرة بصلة بمثابة الردود الجاهزة للجماهير، دون أي اكتراث لشغف الكرة لدى الجميع.
هذا هو بيت القصيد في الأمر كله، إن كرة القدم هي الشيء الوحيد المتبقي للجماهير والذي ما زال يحمل القدرة على الحلم، الشيء الوحيد المتبقي والذي لا يتبع قواعد ثابتة على الإطلاق، يستطيع الفريق الأقل إمكانيات أن يفوز، ربما يتهاوي الفريق الأكثر قيمه ماليا أمام فريق لا يساوي قيمته ثمن لاعب واحد من الصف الأول، حركة واحدة قد تغير مسار مباراة، قرار خاطيء قد يذهب بأحد الفرق أدراج الرياح.. ولكن هل يخل ذلك أبدا بالشغف الذي تمكن من قلب الجماهير؟ الأهلي سيفوز ويخسر ويستفيد من أخطاء المنافسين والتحكيم تارة ويُظلم تارة أخري وسيبقي الأهلي عظيما وسيبقي نادي القرن في إفريقيا حتى اكتمال القرن الحالي وهو ما يكسبه شعبية جارفة وجماهيرية ضخمة وانتماء لكل ما هو أحمر ولا منطق في اعتبارهم أغلبية تستقطب الجهلاء ليس أكثر..
وعلى الجانب الأخر فإن جماهير الزمالك تعلقت قلبها بالأبيض دون إكتراث لعدد بطولات ولا بضرورة انتصارات ولكنهم لم يستطيعوا أن يتذوقوا كرة قدم أخرى مغايرة لما أحبوه فلا منطق في اعتبارهم أقليه مدعية الفهم لا أكثر، كرة القدم لا قواعد فيها ولا تصنيفات، كرة القدم لا يوجد بها أغلبية كاسحة ولا قلة مميزة.