كتب : مصطفى عصام | الإثنين، 07 نوفمبر 2016 - 15:42
من العتبة جينا ومن شبرا يا تريكة.. يا أبو الفانلة حرير حمرا
علي القهوة في إحدى الليالي الخريفية، مشهد معتاد دائما بنسمة الهواء العليل، أفلح في قول صادق من قال، من يتغن فعليه بالخريف لا الربيع الخماسيني، الكراسي البامبو القديمة صاحبة الارتكاز المٌخلخل من كثرة الجلوس والأرجحة عليه، ورجل صامت في منتصف الخمسينات من عمره لا يتحدث، يجلس بجواري و يتصفح جريدته، يقطع الصمت الدائر بقطعة كلامية واحدة في نفس ثابت حين يلمحني أتصفح في صورة أبو تريكة علي الهاتف.
"تعرف يا بني، أبو تريكة ده طول عمره مشوقنا، أه والله، محسوبك عم حسن بشجع الأهلي بقالي 40 سنة".
أرد باهتمام وشغف مع تحريك الكرسي والجلوس عكسياً أمامه "ممكن تحكيلي أكتر حضرتك".
يرد عم حسن : "أبو تريكة بالمللي زي أم كلثوم، يفضل طول الماتش اللحن شغال، في ناس متسلطنة و ناس زهقت ومستنية اللحن يخلص، وهوب أول ما الكوبليه يبدأ، الكل يتشد ويبتدي يركز بكل جوارحه، وهيا تعيد الكوبليه مرة والتانية مع أنك ممكن تمّل، بس السميع ميملش، نفس النظام تريكة، يفضل طول الماتش يطرّب، أول ما يعمل الكوبليه مع بركات و متعب، قلبك يتسلطن".
هدف بوجه القدم الخارجي في مرمي الجيش:
تمريرة رائعة تضع بركات منفردا بمرمى المنصورة:
الهدف العبقري بمرمي المغرب الفاسي الودي قبل مونديال المغرب:
كوبري " محمد ثابت صاروخ" الشهير:
وفي نفس الوقت، ودون سابق ترتيب أو ترك محل للصدف، يتعالى في مذياع راديو القهوة والذي قد يعود لزمن سحيق قد يسبق إذاعات كرياكو، بكوبليه من الست أم كلثوم، تطرّبنا قائلة.
قربك نعيم الروح و العين ونظرتك سحر وإلهام
وبسمتك فرحة قلبين عايشين علي الأمل البسّام.
إن غبت يوم عني أفضل أنا وظني .. يقربك مني ويبعدك عني.
و احتار في أمري معاه ومعاك .. وإن مر يوم من غير رؤياك.
مينحسبش من عمري!
بالفعل، تريكة أختار هامش التشويق، منذ اعتزاله لا نراه كثيرًا أو نسمع صوته في هاتف علي مداخلة تلفزيونية أو ضيفًا علي أحد الإعلاميين، لا يشغل صفحاته علي مواقع التواصل الاجتماعي بأشخاص تحترف إدارة صفحاته، جعل الكل يبحث عنه فهو من الموقنين بأن مدح النفس ذبح، حين نزلت مراوغته لشادي محمد على الخط حين كان في الترسانة قلبت الدنيا رأساً علي عقب، وكذلك صوره في تلك الفترة المجهولة، وخمسة أهداف كانت كفيلة بآلاف من المشاهدات والمشاركة على مختلف المواقع.
حسنًا، جيلي على القهوة قد لا يطيق سماع دقيقة واحدة من التفرد الكلثومي على المسرح، مع أنه اختار طواعية أن يشاهد الخط التريكاوي المتناسق مع بطء الرتم الكلثومي.
لا يهم، سيشعلها الهضبة وسيتناسق مع أغانيه الشبابية القابعة في قلوب جيلي.
دوبنا دوب .. طمن نهارنا .. فهمنا دا أنت اللي اللي فاهمنا
شوقنا أكتر شوقنا
شوقنا أكتر شوقنا .. شوقنا أكتر ما اشتقنا.
تريكة .. دوماً هو البطل!
أبو تريكة كعادته رجل المفاجآت و صاحب الكلمة الأخيرة والعليا، فن يجيده دوماً في ترك الانطباع الأخير يدوم و يدافع عنك مهما أهتز المستوي أو لم تحقق المرجو، كان تريكة هو صاحب الانطباع الأخير دومًا لدي جماهير القلعة الحمراء علي الأخص، المنتخب علي وجه أعم.
إسلام الشاطر في أستوديو تحليلي لمباراة لأسوان بعد ضمان البقاء في الدوري محدثًا أحمد شوبير وموجهاً كلامه لعماد النحاس: "كابتن محسن صالح دائماً كان يجمعني مع سيد معوض والنحاس، ويقول لنا أهم شيء مهما كان مستواك في المباراة أنك تخرج باللقطة الأخيرة، التي تجعل الجمهور يرضى عنك ويرحمك من سكينة النقد و تتفرغ لتقطيع المدرب وقتها، وهذا ما عمله جوزيه لأبو تريكة بالذات".
من يتذكر مباراة الصفاقسي في تونس، يعرف أن أبو تريكة طيلة المباراة لم يقدم شيئا مقنعا للجمهور نظراً للدور الخططي الهام الذي كلفه به جوزيه، ولكن كالكوبرا أطلق أفعوانه السام في أخر أنفاس اللقطة الأخيرة و بالقدم غير المعتادة بارتفاع منخفض و في زاوية مُزينة بالشمع الأحمر، فزين الانتصار بتاج + 90، وأسكت مدينة بأكملها.
كذلك زين اللقطة القتالية في صراع محمد زيدان وسونج، بإسكان الكرة في زاوية مميتة لكاميني، ممسكاً الكأس ومعيدًا له إلى 9 شارع الجبلاية.
بطل يعرف جيدا كيف يستغل جميع إمكانات زملائه، يعلم مثلاً أن سيد معوض جناح أكثر من ظهير فيعطيه الحرية بخلق مثلثات معه في القدم بالقدم، لاعب يعتمد علي المهارة واستخدام العقل في إيجاد التصرف السليم، ويستطيع التصرف بالكرة وإرسال العرضية المتقنة التي تحتاج القوة والتوجيه ولو حتى من "خرم إبرة".
يميل علي الظهير الأيمن أحمد فتحي التلميذ النجيب لمدرسة الاجتهاد، يعطيه الكرة في مساحة لا تقل عن 2*2 متر وأقرب مدافع له يبعد عنه بمسافة تسمح له بالتقاط أنفاسه، فتحي يهدأ و يتروى فيرسل كرة قوية لا تحتاج سوي التوجيه فقط، أما الآن زملاء فتحي يعطونه الكرة عند قدمه ويطلبون منه التصرف، التلميذ النجيب في مدرسة الاجتهاد يخفي سراً بأنه نجح بالرأفة في مادة الإبداع، فيضطر لإرسال كرة عرضية من ربع الملعب، كي تخدم غرضه.
أبو تريكة لا ينظر أبداً لخلفه، الكرة في قدمه تنظر إلي الأمام، والعقل في وجه القدم، يرسلها للمكان المناسب لكل زميل و التي تعطيه الفرصة لظهور أفضل إمكاناته، بركات في مساحة للانطلاق، متعب ليدور بجسده، فلافيو عرضية بحسابات دقيقة أمام مقدمة الجبهة، السعيد في مساحة للعزم قبل التسديد، أسوأ الحلول لتريكة يقدمها هو ألا يعود للخلف، التمرير العرضي حين وجود أزمة بوجه القدم يحل كل شيء!
أبو تريكة هو يونس، ليس اسم يونس، بل هو شخصيته في أغنية منير الشهيرة، قادم من البلاد البعيدة متعطش للعب كرة القدم، يهيم عشقاً في جماهير الأهلي وكذلك هي، لم تفزع الجماهير للخسارة أمام الإسماعيلي بعد 71 لقاء متتاليا بقدر الهلع عند سقوطه أرضاً، تأثر الجميع بعد تقبيله الشارة الخاصة بعبد الوهاب بعد هدفه في الصفاقسي في مرمي الجواشي بالقاهرة، استطاع الوصول لكسرة الحزن الداخلي رغم نشوة الفرح بالهدف.
يعيش كالغريب، يهلع سريعًا لغرفة الملابس بعد انتهاء المباراة، متصالح مع نفسه ومعترف دوماً بأن لا قيمة في معروف قال صاحبه أنا فعلت.
عند ظهور ثنائية أبو تريكة وبركات في فترة 2004، كان حدًا فاصلًا وعاملا هاما من عوامل تغير الأهلي من الفترة القحط بين بداية الألفية إلى الفترة الذهبية التي استمرت حتى 2014، تمامًا كتيار غنائي بُعث في الفترة بين النكسة والعبور، فقضي علي جنون أفلام مقاولات لبنان والعتبة جزاز، التيار الغنائي تمثل في ألحان وأغاني الشيخ إمام مع كلمات أحمد فؤاد نجم، كمثل بهجة تبادل ضحكات تريكة وبركات بعد هدف بركات الثاني في الاتحاد أو إشارة كل منهما للآخر بعد هدف حرس الحدود، أو حضن عميق بعد هدف بايرن ميونيخ، أخفيا طابعا حزينا لسنوات مريرة علي الأهلي.
شال الهوي بينا .. حط الهوي تاني
وإحنا والسفينة .. في بحر الأماني
عمي يا ماشي .. علي الشط القريب
قول أي و أنت ماشي .. لأ ولا طيب
حبي راح ما جاشي .. مش حييجي تاني ؟؟
تريكة مزيكا إقليمية
تريكة، أيقرب للخطيب؟ هل هناك وجه مقارنة بينه وبين حازم إمام؟ البعض يري أن أيمن حفني أعلي منه بمراحل فنيا، مهلاً أخبرني أحدهم بأن رمضان صبحي سيتفوق على تريكة علي الأمد الطويل.
دعني أتفق معك علي أمر ما، عند إعداد قائمة بأمهر عشرة لاعبين في تاريخ مصر، قد أضع تريكة في المركز الأخير أو قد لا أضعه علي الإطلاق، ولكن عند إنجاز قائمة خاصة بأهم وأحسن لاعب في تاريخ مصر، قد أضعه في المركز الثاني إن لم يكن الأول.
خططيا، تريكة يختلف عن الجميع، لم يأت مثله أحد لنشبهه به أو لنعقد مقارنة بينهما لاختلال شرط تساوي الظروف، تمامًا كمن يحب الموسيقى النوبية وآخر يفضل الموسيقى الصعيدية وثالث يفضل أنغام السمسمية السويسي، فيعقد الثلاثة مقارنة واحدة.
الأمر مختلف. الكل رائع، نحب سماع الموسيقى النوبية لاستدعاء الشجن، وأنغام الصعيدية عند الاندماج مع موال وأنغام السمسمية تعيش معنا أيام أكتوبر بذكرياتها المجيدة، وكذلك أيضًا لا وجه للمقارنة بين تريكة وأحد، ليس لأفضلية لشخص بل لأن كلا منهم قدم عزف مختلف.
وبطلنا قدم ما يشبه بالعزف النوبي، عزف منفرد متفرد بثقافته منطوي بتراثه ومنغلق، يحتوي كنوزاً وأسرار كبحث الانجذاب للسمار نصف الجمال، كلماته لا تمر سوي بألفاظ نوبية خالصة تتعلق بشجن التهجير من منطقة السد أو أفراح النوبة الجميلة، لن يستطيع أي دارس للموسيقي أن يأت بمثلها لأنها ثقافة شعب وعاداته، مثل تريكة أيضاً، لن تجد في التكنيك الخاص به رجلاً يشبهه، اللهم علي المستوي العالمي قد نرى زين الدين زيدان.
في المهارة يشبه حمزة علاء الدين، مهندس مصري من النوبة، أستاذ الموسيقي العرقية بجامعة كاليفورنيا، ومخترع آلة جمعت بين العود التركي والتاو الياباني، نكست من أجله اليابان العلم لثلاث أيام بعد وفاته.
أنا عصفور بقلب أبيض وألف لسان.. أطير علي الكون أغني للسلام للحب للإنسان.
في الجزائر، قدموا التحية المشهورة بعد تغييره باللقاء، تحدث معي صديق جزائري بعد تلك المباراة بحوالي أربع سنوات من أنصار المولودية، من الصدفة الرائعة أنه قد حضر تلك المباراة وكان يغني مع أنصار ألتراس فيرديليون المعنية بتشجيع المولودية.
حين حدثته عن تغيير تريكة وقتها وعما هتف، بالأمازيغية وقتها مقاطعاً لي.
"بركا, ما كانش منها بزاف الهدرة والتشجيع لتريكة".
إشراقة فعلها تريكة ونهضة كدائرة أعم وأوسع أضافها للاعب الكرة يدعمها المستوى الإنساني والأخلاقي تدعمه و تسانده مهما أهتز مستواه، انطلاقة من المحلية للعالمية والمشاركة في أغلب المحافل العالمية كأصدقاء رونالدو وزيدان وغيرها، و يُطلب بالاسم إكمالا لجيل عربي قادر علي النهوض بمستوي الكرة العربية و تمثيلها بصورة أفضل من التشريف، تمثلت بوضوح في مجاراة مهارة لاعبي البرازيل و تفكيك الدفاع الإيطالي بالقارات، انطلاقة رائعة تشبه بانطلاقة ثلاثيDes Soleils الشاب خالد، فوضيل و رشيد طه علي مسرح الأولمبيك بمرسيليا، وإيصال فن الراي من الإقليمية الأمازيغية إلي المستوي العالمي كطفرة بدأت قبل بداية القرن الجديد بإحياء من التراث الجزائري بأغنية "يا رايح"، أعلى نسبة سماع بأوروبا وقتها عند إعادة طباعة حفلة Des Soliels كألبوم غنائي.
يا رايح وين مسافر تروح تعيا و تقولي .. شو عم ندمو العباد الغافلين قبلك وقبلي!
أه يا حلو يا مسليني.. يا اللي بنار الهجر كاويني
يقول تريكة دوماً عند ظهوره النادر أمام شاشة أي فضائية: "لاعب الكرة دومًا يجب أن يعتبر كرة القدم أنها وسيلة، يجب أن نمتلك رسالة داخل الملعب وخارجه، رسالة إيجابية، يحث علي الأخلاق، و مهتم بقضايا أمته".
لا عجب في أن تري منه مقولة "عذراً يا سادة.. نحن نربي أجيالا"، المساهمة في بناء مسجد بغانا، وهناك عند العلم بأنك مصري، يبقي السؤال فقط عن أحوال أبو تريكة.
رفع قميص "تعاطفًا مع غزة" ونال أشرف إنذار من كوفي كودجا وعند مراجعة حواراته المتلفزة يفرد جزءً من الحديث حول فلسطين، عن مشاكلنا كأمة العرب جميعا، ولكنه كالعادة يصب الاهتمام علي القضية الأم فاستحق وساماً رفيعا من تكريم وحب الجماهير في 22 دولة عربية، منزلته محفوظة لدي أهالينا بالأراضي المحتلة، فهم وصفوه "بأنيس الروحِ والفكرِ".
على الله تعود على الله
يا ضايع في ديار الله
من بعدك أنت يا غالي
ما لي أحباب غير الله.
تكريماً بصوت وديع الصافي.
تريكة و فؤاد حداد.. حسن المشوار و الختام
فنان فقير على باب الله .. الجيب ما فيهشي ولا سحتوت
والعمر فايت بيقول آه .. والقطر فايت بيقول توت
هذا هو تريكة إجمالًا.. فنان فقير على باب الله، نعم حصل على ما يستحق من تقدير مادي في كثير من الأحيان، ولكنه لم يسع يومًا لمجد شخصي، فنان على باب الله!، لا يسعى إلا لفنه، إلا لجمهوره، والعمر فايت بيقول آه!
تمامًا كفؤاد حداد هذا الشاعر الواقف على البر الآخر من هذه الحياة يشاهد ويستجم ويعلمنا من بعد وفاته يومًا بعد يوم، أن الحياة بالتأكيد لها مقاصد أخرى غير التي نراها.
فؤاد حداد معجم شعر العامية في مصر أنجز ثلثي إنتاجه الأدبي الذي يربو على عشرات المجلدات خلال 5 سنوات فقط، فانظر لتريكة وهو ينجز منتجًا رياضيًا وإنسانيا يشهد له العالم خلال الفترة من عامه الـ27 إلى الـ34 فقط.
"القطر فايت بيقول توت" ويبقى ركابه الصادقين لا يبالون، يخرجون من الحدود الضيقة لهذا العالم المادي إلى رحب العالم المعنوي، يملأونه برسائل ودروس صافية لا كدر فيها فيستحقون حينها أن يصيروا رموزًا للحب والخير والجمال.. هكذا أنت يا تريكة.. قد قُذف حبك في قلبي قذفًا.. ولذا:
بحبك كأني طليق العنان .. و زى العجوز اللي دق البيبان.
وزى الكتاب اللي كان ياما كان .. وزى الرصيف اللي في السيدة.
مفيش في الأغاني كده ومش كده .. تفرقنا عن بعض بالشكل ده!
كلمات فؤاد حداد
مقالات أخرى للكاتب
-
إلى المعنيين بـ النادي الأهلي.. ماذا تريدون؟ الخميس، 18 أبريل 2019 - 23:45
-
سؤال بعنوان: هل تجاوزت الكرة المصرية تبعات فترة القصور الذاتي؟ الجمعة، 25 يناير 2019 - 11:30
-
لماذا لا تنجح الأرجنتين في كأس العالم؟ الجشع والفساد الأحد، 08 يوليه 2018 - 15:49
-
كيف يمكن للسياسة أن تحارب هوية كرة القدم الأحد، 06 مايو 2018 - 17:57