هل تذكرون تلك الفترة من عمرنا عندما غزت «وصلات الدش» بيوتنا؟ لم أكن من المحظوظين الذين استطاعوا متابعة ما يحبون وقتما يشاءون لكن هذه الطريقة –غير الشرعية- أتاحت لي الفرصة لأتابع كرة القدم بتعمق أكثر، فأشاهد المباراة على الهواء مباشرة وأشاهدها من جديد في الإعادة ثم أشاهد جميع الأهداف في فقرة أهداف الجولة. جرعة كروية مكثفة.
حتى في تلك الأوقات التي لا أجد فيها مباراة قوية في الدوري الإنجليزي كنت أشغل نفسي بمتابعة أي مباراة، تابعت في مرة مباراة لسيلتك بالدوري الاسكتلندي، ومن هنا بدأ كل شيء.
عندما تشاهد شانسوكي ناكامورا للمرة الأولى فلا مجال للهروب من الوقوع في غرام قدمه اليسرى. عبقري ياباني ستجده أغلب الأوقات على الطرف الأيمن من الملعب. يعشق تمرير الكرة بين أقدام خصومه ويستطيع تخطي اثنين منهم بمراوغة واحدة.
صانع ألعاب خبير، يخلق الفرص لزملائه ولنفسه حتى، وبالطبع لا ننسى قدرته الاستثنائية على تحويل الضربات الثابتة داخل شباك المنافسين.
كان هناك جدال كبير دوما بيني وبين أحد أصدقائي الذي اعتاد مشاهدة المباريات معي عن اللاعب الأفضل في اليابان، كان يفضل هو هيديتوشي ناكاتا حتى أجبرته على مشاهدة ناكامورا في يوم سبت كروي في اسكتلندا. لا داعي لذكر أنه قد غيّر رأيه بعد هذا اليوم.
لم يكن ناكامورا بالنسبة لي مجرد لاعب جيد فقط، لقد كان في فترة ما لاعبي المفضل وتعلمت مراوغة خصومي في كرة الشوارع على طريقته بحركة كان يكررها كثيرا خلال المباريات بإتقان وفاعلية شديدة.
هذه هي..
هو الأصغر في عائلة لديها أربعة أولاد وتقطن في مقاطعة توتسوكا التي توجد هناك في قلب مدينة يوكوهاما، مقاطعة اكتسبت شهرتها كونها أحد أهم المراكز التجارية والصناعية في اليابان.
لم تكن كرة القدم رياضة مشهورة في هذا الركن من العالم كما يقول ناكامورا في حوار لموقع FourFourTwo "كانت البيسبول، لسنوات، هي الرياضة الأشهر في اليابان. مع بداية التسعينات، ساعد اطلاق دوري المحترفين اليابانيين على متابعة وحب كرة القدم أكثر"
لكن ناكامورا كان على دراية بها منذ الصغر وابدى اهتماما باللعبة حتى قبل أن يلعبها. عندما كان في الخامسة من عمره دأب على قراءة قصص "كابتن تسوباسا" المصوّرة، أو ما يعرف في المنطقة العربية بـ"كابتن ماجد".
في الحقيقة، لم يخذله والداه ولم يجبراه على ممارسة أي من ألعاب القتال اليابانية كما تجري العادة، لكنهم في المقابل كانوا على علم باهتمامه المتزايد بكرة القدم وقرروا أن يذهبوا بشونسوكي الصغير إلى نادي ميسونو المحلي.
كان ناكامورا بارعا حتى أنه قد تم اختياره لفريق نجوم يوكوهاما الصغار لجولة في الاتحاد السوفيتي، كان الفريق مخصصا فقط لطلبة الصف السادس لكنه استطاع الانضمام لموهبته الاستثنائية على الرغم من كونه في الصف الخامس.
كان في الثانية عشر من عمره عندما انضم إلى فريق نيسان لكرة القدم (عرف لاحقا بيوكوهاما مارينوز) في 1991 ولاحظ مدربوه امكانياته خلال الحصص التدريبية، كما كان يتدرب منفردا في كل يوم عقب نهاية التدريبات لمدة ساعة على تسديد الركلات الحرة، كانت مجرد هواية مفضلة له في ذلك الوقت قبل أن يعلم أنها ستكون مهارة رئيسية وسبب في شهرة قدمه اليسرى.
ولكن، على الرغم من مهارته وقدرته على الابداع بالكرة، فشل ناكامورا في الاستمرار مع الفريق الذي استبعده لاحقا نظرا لتواضع قدراته البدنية وأيضا شخصيته الانطوائية التي حالت دون انسجامه بشكل كامل مع الفريق.
كل ذلك أدى إلى ذهابه إلى ثانوية (توكو جاكوين) في مدينة كاواساكي التي كانت تبعد عن منزله مقدرة ساعتان ونصف ذهابا وإيابا، لكنه لم يكن ليسمح لنفسه بأن يفشل أبدا.
هنا اتيحت الفرصة لناكامورا بالظهور علنا، دوري مدارس الثانوية في اليابان كان مشهورا نوعا ما ويحضر للمباراة النهائية في كل موسم أكثر من 35 ألف متفرج. كما أنه كشف عن موهبة نجوم مثل هيديتوشي ناكاتا، ياسوهيتو ايندو، وكيسوكي هوندا لاعب ميلان الحالي.
قاد ناكامورا فريق مدرسته للقب 1995 وفاز هو بجائزة أفضل لاعب في البطولة، كما قاد الفريق إلى النهائي في 1996 لكنهم خسروا هذه المرة. نتيجة لهذا، تم استدعاء ناكامورا للمرة الأولى لمنتخب اليابان الذي سيشارك في بطولة أمم آسيا تحت 19 عاما. كان هو اللاعب الوحيد في القائمة الذي ما زال في المدرسة الثانوية.
استدعاء تبعه عروض من أندية كثيرة خلال 1997 وهي سنة التخرج، ليختار ناكامورا فريقه الأول الذي تخلى عنه، يوكوهاما مارينوز، حيث سيلعب هناك لخمس سنوات قبل الرحيل عن أرض الشمس.
رحلة ناكامورا مع منتخب اليابان في 1996 استمرت ليشارك في كأس العالم للشباب تحت 20 عاما. تصفيات ونهائيات دورة الألعاب الأولمبية في سيدني حيث شكل ثنائي لافت للانتباه مع شينجي اونو.
ثم ظهور على المستوى الأول في تصفيات أمم آسيا 2000 والتي تأهل لها منتخب اليابان واستطاع أن يفوز بالبطولة، شارك ناكامورا في كل المباريات.
عندما استدعى المدرب فيليب تروسيه القائمة النهائية التي ستشارك في كأس العالم 2002 لم يكن اسم شونسوكي ناكامورا موجودا مدعيا أنه "لا يناسب طريقة لعبه". خيبة أمل كبيرة له وللجماهير. نقطة تحوّل في مسيرته سيستخدمها لمصلحته ليصبح فيما بعد أسطورة يابانية.
خرج ناكامورا من اليابان وقد فاز بالدوري الياباني في 2001 مع مارينوز متجها صوب القارة العجوز حيث سيلعب لفريق ريجينا الصاعد حديثا للدرجة الأولى في إيطاليا.
لم يتأقلم كثيرا هناك: "كانت الأمور في البداية صعبة للغاية في إيطاليا. واجهت صعوبات لأجد الأرز حتى! كما أن الناس هناك لا يأكلون السمك النيء. لقد كانت ثقافة مختلفة تماما وغريبة بالنسبة لي ولحميتي الغذائية، كل شيء هنا يضاف إلى المكرونة. أعتقد أنني قد أفسدت حميتي الغذائية هناك"
فترته في إيطاليا التي بدأت في 2002 وانتهت في 2005 لم تكن كما توقع هو لنفسه على ما يبدو، كما أن الفريق لم يكن له أي طموح على الاطلاق سوى عدم الهبوط للدرجة الثانية، وقد عانى حتى مع هذا الأمر.
الا أن 2004 كان عاما جيدا بالنسبة له، تزوج ناكامورا وأمن لنفسه استقرارا خارج الملعب، ثم فاز مع اليابان ببطولة أمم آسيا من جديد حيث فاز بجائزة أفضل لاعب في البطولة أيضا.
غادر ناكامورا بعد أن شارك في 81 لقاءا سجل خلالها 12 هدفا.
بعد أداء رائع في كأس القارات عام 2005، قرر المدير الفني لسيلتك في ذلك الوقت، جوردون ستراتشان، الحصول على خدمات الياباني بأي طريقة. وقد كان. تمت الصفقة في 29 يوليو 2005 بالتحديد.
كنت قد تابعت اليابان في أمم آسيا 2004 وتعرفت على ناكامورا للمرة الأولى، ثم شاهدته من جديد في كأس القارات 2005. لم أكن أعلم في ذلك الوقت من هو ولم أشاهد ريجينا بالتأكيد في تلك الفترة، حتى مع انتقاله إلى سيلتك لم يكن الخبر قد وصل إليّ. لكنني تعلقت بناكامورا وكنت أصيح أمام التلفاز كي يمرر له زملائه الكرة لأستمتع أنا.
ثم بطريقة ما تسرب الدوري الاسكتلندي إلى منزلنا، تفاجأت عندما شاهدت مباراة لسيلتك بالصدفة لأجد ناكامورا أمامي. يا لحظي السعيد! ها انت ذا من جديد تظهر أمامي، لن أفوّت مباراة واحدة لهذا الفريق بعد الآن.
ربما شاهدت مباريات في موسم 2005/06 لسيلتك أكثر من أي فريق أوروبي آخر وكان شانسوكي هو السبب بالطبع.. وقدمه اليسرى بالتحديد.
تكمن المفارقة العجيبة في أن مترجم ناكامورا الخاص في اسكتلندا كان مشجعا للعدو اللدود، جلاسجو راينجرز! صحفي ياباني اسمه دايسوكي ناكاجيما.
اتيحت لي الفرصة منذ ذلك الحين كي أتابع ناكامورا عن كثب، لم يكن من أولئك اللاعبين الذين يمتازون بالسرعة لكن تفكيره كان كذلك. يعرف جيدا كيف يتخطى خصمه حتى وان كان الأخير أسرع منه، عليه فقط أن يقوم بإحدى الحركات التي يتقنها.
التفافة كرويف؟
استخدام كريستيانو رونالدو كعب القدم لتغيير الاتجاه؟
لم يكن مستعدا عندما دفع به مدربه في المباراة الأولى له ضد داندي يونايتد في الدوري. في الحقيقة، لم يكن ناكامورا قد لعب أي مباراة عقب نهاية كاس القارات، إلا أنه حصل على جائزة رجل المباراة وعندما غادر الملعب في الدقيقة 84 حياه الحضور في سيلتك بارك بحرارة. بداية موفقة.
كان سيلتك قويا بالفعل في الجبهة اليسرى، ووسط ملعبه جيد كفاية لذلك تحوّل ناكامورا على الفور إلى الجهة اليمنى لسيلتك. اللعب بالقدم اليسرى لم يشكل له أي عوائق، يغضط الخصم عليه بسرعة ظنا منه أنه سيضطر لضبط الكرة على قدمه اليسرى، فيباغت ناكامورا بمراوغة سريعة وتمريرة عرضية متقنة بالقدم اليمنى. لا مشكلة!
انتهى الموسم. سجل ناكامورا 6 أهداف وصنع 10 آخرين. فاز سيلتك بالدوري والكأس بمساهمة الياباني الذي ضبط إيقاع الفريق بقدمه اليسرى.
"ناكامورا لاعب عظيم. باستطاعته فتح عبوة فاصوليا معلبة بقدمه اليسرى"
لقد كان العام 2006 هو عام ناكامورا. ازدهرت مبيعات القميص رقم 25 الذي يرتديه، ثم يظهر على أكثر من غلاف لألعاب الفيديو التي تنتجها شركة كونامي اليابانية، كما ظهر في أحد إعلانات شركة اديداس العالمية التي تواجد بها كل من زين الدين زيدان، أوليفر كان، ودايفيد بيكام. أصبح سفيرا غير رسمي لليابان.
كل هذا لم يؤثر للحظة على عقليته الاحترافية، نستطيع أن نرى نجوما انشغلوا بالطريقة التي يظهرون بها وبملابسهم والاعلانات فنجحوا في تشتيت تركيزهم داخل الملعب. لم يكن ناكامورا واحدا منهم، لا أتذكر في أي مرة أنني رأيته يهتم بشعره أو بمثل تلك الأشياء التي تنتشر بكثر هذه الأيام.
يأكد مترجمه الخاص على هذا الكلام: "أعتقد أن ناكامورا مثالا ممتازا للاعب كرة القدم المحترف. انه مدمن على كرة القدم ولا يحب التسكع في الحانات أو الملاهي الليلية، في المقابل، يفضل أن يصطحب عائلته إلى حديقة الحيوان في إدنبرة"
تاريخ اسكتلندا مع الكحول معروف، فهي من أكثر الدول المنتجة لمختلف أنواع الخمور عالية الجودة، ويعتبر الويسكي الاسكتلندي هو الأشهر في العالم. كل هذا جعل الكحول والجعة ثقافة محلية في اسكتلندا وباقي دول المملكة المتحدة. لم يكن ناكامورا على علم بذلك حتى استقر في مدينة جلاسجو.
"شرب الكحول وتناول السمك ورقائق البطاطا، كل هذا ليس بالشيء الجيد. في أيام المباريات عندما نذهب للملعب كنت اشاهد زملائي يشربون الجعة ويأكلون أيضا. لا ترى مثل هذه الأمور أبدا في اليابان"
لقد كان العام 2006 هو عام ناكامورا. سجل في أكتوبر 3 أهداف "هاتريك" للمرة الأولى في أكتوبر من نفس العام ضد الفريق الذي بدأ أمامه مسيرته مع سيلتك، دادني يونايتد.
تأهل سيلتك مباشرة إلى مجموعات دوري الأبطال بفضل فوزه بالدوري في الموسم الماضي. سيلعب ناكامورا مباراته الأولى في البطولة الأهم على مستوى العالم ربما ليدخل التاريخ من الباب الكبير.
جاءت مباراته الأولى ضد مانشستر يونايتد في ملعب اولد ترافورد العتيق في شهر نوفمبر.
يحصل أحد لاعبي سيلتك على ضربة حرة قرب منطقة جزاء الفريق الأحمر. يتقدم شونسوكي. لقد فعلها.. سجل ناكامورا ولم يحرك الحارس فان دير سار ساكنا.
خسر سيلتك بنهاية اليوم 3-2 الا أن جمهور الفريق يستطيع أن يتذكر تلك اللقطة الآن وفي أي وقت.
ثم يأتي ديسمبر ليسجل الياباني في الشباك المفضلة بالنسبة له ضد داندي يونايتد من جديد.
لقد كان العام 2006 هو عام ناكامورا وقد أنهاه بأفضل طريقة ممكنة مع هذا الهدف.
ما حدث في أبريل 2007 حوّل ناكامورا من مجرد لاعب مفضل عند البعض إلى أسطورة. كنت أتابع هذا الموسم بشغف كبير وأرى النهاية تقترب وأتمنى في داخلي أن يتوّج ناكامورا جهوده بلقب آخر يلوح في الأفق لتقدم سيلتك في النقاط.
ثم جاء الموعد في 22 أبريل. سيلتك يواجه كيلمارنوك في مباراة قد تحسم اللقب مبكرا إذا استطاع الفريق تحقيق الفوز. تمضي الدقائق والنتيجة 1-1 ويتبقى لحظات على صافرة النهاية.
احتسب حكم اللقاء ضربة حرة من الجهة التي يلعب فيها ناكامورا وها هو يستعد للتسديد. جوووووووووووووول! سيلتك بطل الدوري للموسم الثاني على التوالي.
"اذا كان هناك أي أحد يستطيع فعلها فهو ناكامورا. لقد فعلها. يا لها من طريقة للفوز بالدوري"
للأسف لم أشاهد تلك المباراة على الهواء مباشرة لكنني شاهدت الهدف في المساء أثناء إعادة المباراة. لم أكن مشجعا لسيلتك في أي يوم من الأيام، لكنني شعرت بسعادة بالغة من أجل واحد من اللاعبين المفضلين بالنسبة لي في تلك الفترة.
ظل ناكامورا يلعب بالقميص الأبيض والأخضر حتى 2009، ثم رحل إلى اسبانيول ولم يلمع هناك ليعود على ناديه ومدينته الأم من جديد في يوكوهاما مارينوز ليحصل معهم على الدوري في أول موسم. وما زال يلعب للفريق حتى الآن وعمره 38 عاما.
ان قدم ناكامورا اليسرى من أكثر الأشياء التي تاهت في وسط زحام النجوم الأوروبيين واللاتينيين. هي عقل في حد ذاتها أكثر من كونها مجرد قدم.
شخصيا، أعتبر شونسوكي الياباني الأمهر على الاطلاق الذي شاهدته عيناي يوما. لديه كل خصائص عباقرة اللعبة: الذكاء والرؤية والعقلية الاحترافية إذا كنا نتحدث عن خصائص الشخصية، والمهارة الفائقة ودقة التصويب واستخدام القدمان إذا كنا نتحدث عن خصائص اتقان اللعبة.
"هناك ناكامورا واحد فقط.. هناك ناكامورا واحد فقط"
أتذكر بين الحين والآخر هذا الهتاف الذي خرج من مدرجات سيلتك بارك في عطلات السبت والأحد كثيرا وأجد نفسي أردده لا إراديا دون وعي مني. هناك ناكامورا واحد فقط.