كتب : معتز سيد
تقف وحيدا في غرفتك، يقسم شعاع الشمس الضئيل الذي يمر عبر فتحة صغيرة من نافذتك، وجهك إلى نصفين والحزن يسيطر على كل نصف.
تبدأ في جمع أغراضك مع صوت يخترق مسامعك كل دقيقة «لا تجمع إلا الأشياء الضرورية»، تحمل حقيبتك وتخرج من الغرفة لتشعر بثقل في حركتك. لا ترغب في ترك المكان الذي وُلدت فيه. لا ترغب في محو ذكريات أيامك الأولى في الحياة. لا ترغب في الرحيل ولكن ليس أمامك سوى الرحيل.
تصل إلى نهاية الطريق لتنظر خلفك لتودع المكان الذي أصبح يسوده الغيوم الحزينة، نعم سأرحل الآن لأنه لا سبيل إلا الرحيل ولكنني سأعود. سأجعل العالم كله يتذكرني. سأجعلكم ترددون أسمي دائما.. ميروسلاف كلوزه.
أنتهى المشوار وقرر الأسطورة، نعم الأسطورة ميروسلاف كلوزه، أن يُعلق حذائه ويعتزل لعب كرة القدم نهائيا. أكثر من سجل أهدافا في نهائيات كأس العالم وأكثر من سجل بقميص منتخب بلاده ألمانيا، بداياته لم تكن سهلة على الإطلاق.
هنا لا نتحدث عن بداياته في عالم كرة القدم بل في الحياة بأكملها. ولأننا نسعى لشكر كلوزه على كل ما قدمه لنا في الملاعب، دعونا نعود سويا إلى الوراء لنبدأ معا قصة «الطفل» ميروسلاف.
الطفل والحرب والرحيل
وُلد كلوزه في التاسع من يونيو 1978 في منطقة سيليزيا في مدينة أوبولي جنوب بولندا من أم تُدعى باربارا جيز، بولندية. وأب يُدعى جوزيف كلوزه. لم يختر ميروسلاف بكل تأكيد المنطقة التي وُلد ونشأة فيها.
ومن سوء حظه كانت تلك المنطقة هي سيليزيا.
سيليزيا هي منطقة تاريخية في أوروبا الوسطي. تغطي الأجزاء الجنوبية الغربية من بولندا وبعض أجزاء ألمانيا والتشيك. أصبحت تابعة لألمانيا عندما تمت الوحدة الألمانية عام 1871 ولكن كل ذلك تغير بسبب الحرب العالمية الثانية.
بعد 80 عاما استعادت بولندا من جديد منطقة سيليزيا وذلك بسبب خسارة ألمانيا في الحرب العالمية.
لحظة واحدة.. لماذا تطرقنا في حديثنا من كرة القدم إلى السياسة والحرب؟ في الحقيقة نحن لم نتطرق بل القدر هو من فعل ذلك عندما وُلد ميروسلاف في منطقة شهدت أثار الحرب.
ولأنها لم تكن أي حرب بل الحرب العالمية الثانية لم تكن أثارها لتمحى بسهولة على الإطلاق.
ويحكي كلوزه عند بداياته قائلا: «أبي كان يمارس كرة القدم كلاعب محترف ولكنه وقتها لم يكن يربح المال الجيد. والدتي أيضا لم تكن تربح المال بشكل جيد من ممارستها للعبة كرة اليد».
«المنزل كان صغيرا جدا جدا جدا. كنت أشارك الغرفة مع أختي الأكبر سنا وتوجد غرفة أخرى نتواجد بها طوال اليوم وفي النهاية ينام فيها والدي ووالدتي».
«الغرفة كانت في الطابق السابع وكنت أنظر من النافذة دائما لأشاهد بعض الأطفال وهم يلعبون. وفي بعض الأوقات كنت أشاركهم اللعب».
منذ أن أصبحت سيليزيا، بولندية، وكان يحق للسكان القدماء منها العودة من جديد إلى ألمانيا للعيش هناك في حالة أرادوا ذلك.
وهنا جاء قرار الرحيل من عائلة ميروسلاف بسبب «المستقبل سيكون أفضل في ألمانيا».
يقول كلوزه: «أبي أخبرني بأنه قرر أن ننتقل إلى ألمانيا لأنه رأي أن المستقبل سيكون أفضل في ألمانيا عن بولندا».
«وقتها شعرت بالخوف. سأرحل من المكان الذي نشأت فيه!، ولكن في نفس الوقت شعرت ببعض الفضول. العيش في ألمانيا سيكون أفضل بكل تأكيد».
«جمعت أهم أغراضي ووضعتها في السيارة وبدأنا رحلة الرحيل».
لا تعتقد أن ظلام وتأثير الحرب والرحيل عن المنطقة التي نشأ فيها هو فقط أصعب ما مر في حياة كلوزه بل الأصعب لم يأت بعد.
مخيم الرعب
من أجل أن تنتقل من سيليزيا إلى ألمانيا يجب عليك الحصول على جواز سفر ألماني. وتلك الخطوة ليست بالسهلة على الإطلاق.
عائلة كلوزه بدأت في رحلتها من سيليزيا إلى ألمانيا ولكن للحصول على جوازات السفر والأوراق اللازمة بالدخول إلى ألمانيا، عليك المرور بمخيم للاجئين في منطقة سكسونيا السفلى.
وهنا بدأ رعب ميروسلاف.
ماذا حدث؟ يقول ميروسلاف: «كان يجب علينا التواجد في مخيم للاجئين في سكسونيا (نيدر زاكسن وهي إحدى ولايات ألمانيا) لاستخراج الأوراق».
«لا يمكنك أن تتخيل المشهد في هذا المخيم في ذلك الوقت. كان كالرعب».
«ما يقرب من 5 عائلات بالكامل تجلس في غرفة واحدة فقط ضيقة للغاية. وعليك التواجد بها».
«كل من في المخيم يتشاركون حماما واحدا فقط. كان مشهد لم أصدقه أبدا ولم أصدق أنني سأتواجد هنا».
«ولكن من حسن حظي أن هذا المشهد استمر لـ9 أيام فقط وليس أكثر. عشنا في المخيم 9 أيام قبل أن ننجح في الحصول على أوراقنا ونصبح أخيرا أحرارا للذهاب إلى ألمانيا».
«لا أنسى عندما خرجت من المخيم وتوجهت إلى السيارة ووضعت أغراضي وأنا أعلم أننا سنرحل أخيرا من هنا. انتهى الرعب».
«إذا لنذهب ونرى كيف سنعيش في ألمانيا».
البداية في ألمانيا
تحولت رحلتنا الآن مع كلوزه. فانتهى وقت الرعب وتأثير الحرب وبدأ وقت الكفاح لبداية العيش في ألمانيا.
هنا يأتي دور العائلة بالكامل لمساعدة ميروسلاف.
ويقول جوزيف والد ميروسلاف: «الأمور كانت صعبة للغاية في البداية. بحثت عن وظيفة أخرى بجانب كرة القدم».
«كنت أتدرب مع أحد الفرق الألماني إلى جانب عملت في شركة صينية».
«بعد فترة قصيرة وجدت أنه من الصعب للغاية أن أواصل على هذا المنوال. لذلك انتهت علاقتي بكرة القدم».
انتقال عائلة ميروسلاف إلى ألمانيا جاء في مدينة كايسرسلاوترن جنوب غرب ألمانيا وبالطبع الحياة لم تكن سهلة على الإطلاق على ميروسلاف الذي لا يتحدث الألمانية من الأساس.
ويقول كلوزه: «لم أكن أعرف اللغة الألمانية، فقط كنت أقول شكرا ونعم. وهذا الأمر سبب لي مشاكل عديدة في البداية وخصوصا في المدرسة».
«في يومي الأول في المدرسة كان على كتابة بعض الأوراق المطلوبة التي سلمها لنا المعلم وقتها. ولكنني لم أفهم أي شيء ولذلك قمت بتسليم الأوراق فارغة بلا أي كلمات».
«الغضب ظهر بشدة على معلمي وبدأ بالتحدث لي بغضب ولكنني لم أفهم أيضا ما يقول ولكنه ظهر غاضبا. بعد ساعة واحدة لم أقدر على استيعاب الأمور فركضت مسرعا إلى المنزل واستمريت في البكاء طويلا».
«مع الوقت بدأت في تعلم اللغة. كنت أتعلم مع أطفال أقل مني سنا ولكن في النهاية كان ضروريا على فعل ذلك».
«التعلم أصبح أسرع وأسرع من خلال كرة القدم. بدأت في اللعب مع الجميع واكتسب أصدقاء جدد».
الوجه الجميل لكرة القدم يظهر الآن. كرة القدم التي ليست مجرد لعبة بل حياة بالكامل.
دور كرة القدم
يقول والد كلوزه: «منذ أن كان طفلا وهو يعشق كرة القدم. يحبها بشدة ولم أمنعه نهائيا من ممارستها».
«في كل فرصة تتاح أمامه للعب، يلعب. كنت أقول له دائما: إذا كان لعب كرة القدم هو هدفك، فقاتل من أجله».
كلوزه بدأ لعب كرة القدم في فريق الشباب مع SG Blaubach-Diedelkopf وفي 1998 لعب مع الفريق الثاني لهامبورج بعدها سريعا انتقل إلى الفريق الثاني لنادي كايزرسلاوترن.
هنا بدأ الحظ يبتسم لكلوزه بعدما وقف ضده طوال الفترة الماضية.
الإصابات تضرب الفريق الأول لكايزرسلاوترن وستيفان مايوفسكي المدير الفني لفريق الشباب يقترح على أوتو ريهاجل المدير الفني للفريق الأول ضم بعض العناصر من الفريق الثاني للأول لعلاج أزمة الإصابات.
على رأس هؤلاء كان ميروسلاف كلوزه.
ريهاجل وضع بصمته سريعا على كلوزه فحول اللاعب من لاعب وسط مهاجم إلى مهاجم صريح وكان ذلك عام 2000.
لتتحول حياة كلوزه تماما بسبب كرة القدم. ويبدأ الانفجار في وجه العالم الذي ظلمه من قبل.
الانفجــــــــــــــــــار
لم يحتج كلوزه سوى لموسم واحد فقط قبل أن ينير سماء أوروبا بانفجار موهبته.
ميروسلاف يسجل 9 أهداف خلال موسم 2000-01 بقميص كايزرسلاوترن في 29 مباراة لعبها من 25 بشكل أساسي.
الانفجار ليس هنا بل في الموسم التالي مباشرة. كلوزه يسجل 16 هدفا في موسم 2001-02 خلال 31 مباراة له في الدوري الألماني وكان ينقصه فقط هدفين لاعتلاء صدارة الهدافين.
موسمان ولا أروع لكلوزه بالطبع جعل الكل يتحدث عن ميروسلاف الذي تغلب على صعوبات قصوى.
بعد الموسم الأول، جيرزي أنجيل المدير الفني لمنتخب بولندا وقتها سافر خصيصا إلى ألمانيا للتحدث مع كلوزه.
المدرب البولندي طلب من كلوزه الانضمام إلى منتخب بولندا ويصبح ممثلا لمنتخب بلاده التي نشأ فيها.
فكيف كان رد ميروسلاف؟
رد كلوزه وقتها قائلا: «أنا أسف سيدي، ولكنني أحمل جواز سفر ألماني».
«سألعب لمنتخب ألمانيا. أثق أنني سأنضم لهم وستتاح لي الفرصة للعب في كأس العالم».
«أعشق بولندا وأعتز للغاية بنشأتي هناك، ولكن أعذرني، لن أقدر».
ليعود أنخيل إلى بولندا حزينا ويبدأ كلوزه الانفجار بقميص الماكينات الألمانية.
وبالفعل تحقق حلم كلوزه وتم استدعائه لمنتخب ألمانيا.
فكيف كان الظهور الأول؟ 24 مارس 2001 في تصفيات أوروبا المؤهلة إلى كأس العالم. كلوزه يجلس على مقاعد بدلاء ألمانيا أمام ألبانيا.
النتيجة 1-1 والدقيقة 73 وميروسلاف كلوزه يشارك لأول مرة بقميص منتخب ألمانيا ويكتب الظهور الدولي الأول في مسيرته عن عمر 23 عاما.
هل تعلم ماذا حدث بعد ذلك؟ جووووووووووووووووووووووووووول كلوزه يسجل في الدقيقة 89 ويكتب انتصار ألمانيا القاتل على ألبانيا وأول أهدافه في أول مشاركته الدولية.
«لعبت 137 مباراة دولية مع المنتخب، و1+3+7= 11 وهو رقم قميصي هنا مع المنتخب. شكرا ألمانيا».
حوار مع كلوزه في مجلة Spiegel الألمانية عام 2010
حوار مع والد كلوزه مع موقع The history of «the Oder» Opole الألماني عام 2007