أهلا بك.. وقتما وريثما تقرأ تلك الكلمات المبعثرة أو المنمقة كما يحلو لتعبيرك، أنت مُنغمس في هم ما من هموم الحياة ولكنك بالتأكيد من المؤمنين و المناصرين لفرحة كرة القدم.
جالس في مواصلات النقل العام أو "الميكروباصات" في العمل الممل الرتيب، تدرس في الكلية أو في المدرسة، تبحث عن وظيفة، حل لإيجار السكن، تناقش الغلاء، تأخذ قسطاً من الراحة مع صديقك أو مع زوجتك، تأكل، تشرب، تقضي حوائجك، كل هذا تنساه أمام كرة القدم..
قدسية كرة القدم في تفريق التناحرات و تجميع أشد الأمور تضادية فاقت نداءات الأئمة والأساقفة والحاخامات، وأثرت كثيرً عن تعاليم كمثل تعاليم كونفوشيوس وأرواح إقليم التبت وسجايا الدلاي لاما.
الأديب التشيكي كافكا، صاحب أكبر خيال مريض في تاريخ الرواية المعاصرة، قبل وفاته عن السابعة والثلاثين عن عمره، له مقولة مؤثرة: "في كوابيسك، ستجد النقطة البيضاء".
هل أنت وأنا كمواطنين مصريين نمتلك كوابيسا؟، حدث ولا حرج، ولكن دعنا من هذا الأمر، نتحدث يا صديقي عن كوابيس كرة القدم.
أنت تشجع " أ " و أنا أشجع "ب" و صديقنا الثالث يشجع الفريق " س" أما رابع جلستنا فهو معنا الآن يرتدي قميص الفريق " ص".
بالتأكيد الكوابيس الخاصة بالفريق "أ" خاصتك، تثير فرحتي كمشجع "ب" وكذلك "س" وبالأحرى أثارت لمعان للأخ المُتيم ب " ص".
أما الكابوس المجمع لنا والذي أثار ربما شفقة، أو ضيق وصعوبة تنفس، مهلاً مهلاً، صديقي مشجع " ص" يُسهب في البكاء بسببه، ويجمعنا في كرة القدم، فهو كابوس عدم التأهل لكأس العالم..!
لا أريد تذكر الكوابيس، ولكن إن كنت تُحب المأسوايات، ففتش عن تذكرة الأرجنتين 1978، تونس تمتلك فكرة جيدة عن الدفيندر، أما نحن فلا نعلم في خطط كرة القدم سوي 4/2/4، طارق ذياب يصول ويجول في تونس الخضراء، والخطيب وشحاتة مكتوفي الأيدي وكذلك روقة، مصطفي يونس أرتكب كل الخطايا و زميله أحمد عبد الباقي يتقدم للمهام الهجومية دون داعي، رباعية في الأراضي الخضراء، انتهي حلم تذكرة بيونس أيرس..!!
عند ركوبك ذلك القطار ستمر علي محطات عدة، ستتوقف في محطة 1986 وضربة جزاء جمال عبد الحميد.
ستتمني أن يتسارع القطار عند محطة 1994 ولا تري بعينك مجدداً كرة مجدي طلبة في زيمبابوي، ستزيد مكابح القطار عند الفرملة في محطة 1998 خفاقاً في قلبك و جورج يختار أضيق سنتيمترات في المرمي ذو ثمانية أمتار اتساعا ليزيد تدميل الجرح، في محطة 2002، طارق السعيد وعمارة سيثيرون غضبك ولعنك وأرجو منك سيدي أن تحافظ في ألفاظك علي الذوق والأدب العام الخاص براكبي القطار زملائك، وربما ستكتفي بمشاهدة فرص أبو تريكة وعمرو زكي الضائعة في مباراتي كوت ديفوار وليبيا في محطة 2006 وتمسك عن غضبك عندماً يهاتفك زميلك في المقعد المجاور " هتشتم تريكة يا جدع..!!"، فتكتفي بالهمهمة بإرسال سب صريح لمن جعل أحمد السيد ظهير أيسر وحسن مصطفي جناح أيسر!.
محطة 2010 تخيم بالصمت علي جلال منتخب الساجدين مع شاشة عريضة تعرض هب ودب و نرفزة بركات علي فرصة مباراة الجزائر و سنتيمترات تريكة الضائعة أمام زامبيا بالقاهرة، في المحطة الأخيرة، محمد نجيب وحسام غالي وباقي أفراد هذا المنتخب مازالوا علي قيد الحياة و عطائهم سائر علي الملعب باستثناء جمعة وتريكة فعلقوا الحذاء!
مهلا مهلا، لماذا تخطينا محطة 1990، محطة الأحلام الوردية. مونديال إيطاليا في أراضي أول من ربطوا كرة القدم بالعاطفة والجرينتا، وجعلوا لها مذاقاً يختلف عن مذاق من ربط القهوة بأغاني فيروز وكلمات الرحباني وأشعار محمود درويش، ربما عاطفتنا وجاذبيتنا نحو مدرسة دراويش كرة القدم تربطنا دوما بإيطاليا فذهبنا إليها عام 1934 وعام 1990 فقط، حسناً فلنطرد ذلك الهاتف التشاؤمي بإن مصيرنا في التأهل متعلق باستضافة إيطاليا للمونديال ولنفكر أن المونديال القادم بروسيا، ولا ننتظر اشتعال الأجواء بين روسيا وأوكرانيا مجددا فيتخذ إنفانتينو القرار الحاسم بنقل التنظيم لإيطاليا، فنضمها ضمن العُقد الشهيرة، دول شمال إفريقيا قاطبة و عدم التأهل سوي لإيطاليا.
سأخذك مجدداً لمشهد ثمانيني أو في أواخر الثمانينات، بالتحديد 18 نوفمبر عام 1989، لن يتقافز في ذهنك سوي منطقة العتبة، وأتوبيس ذو شريطتين حمراوتين ويبرز منه من الشبابيك والأبواب مواطنون عدة، وزحمة كثيفة متناسبة مع أغاني علي حميدة و عدوية وكتكوت الأمير..!
سأخذك مباشرة لمعقل استاد القاهرة، الاستاد الذي يتسع لـ 65 ألف متفرج، فلا تتعجب أنه في تاريخ 18/11/1989 احتشد جمهور بالاستاد قوامه 130 ألف متفرج أي ضعف السعة، أملاً في التأهل لكأس العالم أمام الجزائر.
لا عجب أنه تكرر مجدداً بعدها بعشرين عاماً، وقت هتاف الدرجة الثانية الذي سري كالنار في الهشيم " كاااااااس العاااااااالم "، ولكنه أنتهي بمانشيت " دع العلم مرفوعاً” مانشيت غلفه الحسرة..!!
تعادل في الجزائر بالجزائر، وسط تألق مستميت لخط دفاعنا بعنابة، وتخطي مراحل كينيا ومالاوي بنجاح، الحلم سيتحقق أخيراً، باقي علي إيطاليا خطوات.
فلنبقي في تاريخ 1989، معسكر مغلق قبل المباراة من قبل الجوهري وكذلك علي فرجاني الجزائري، كتيبة ضمت فتحي مبروك، حازم كرم وسمير عدلي و د/ أحمد ماجد، سيارات الشرطة العسكرية تقف علي الممرات لمنع دخول أي سيارة للفندق، نزع فيش التليفونات وعدم زيارة الأقارب.
الفريق المصري يجري الإحماء في أرض الملعب، في عيونهم ملامح الجندية ليس إلا، زئير يتصاعد مع دخول الخطيب وحمادة إمام وحمدي الكنيسي لغرفة التعليق من أجل الراديو، وكل ذلك لا يزيد سوي عاتق المسؤولية، الفريق الجزائري تعود علي تلك الأجواء، سبق أن رآها سابقاً في تصفيات لوس أنجلوس 1984.
علي بركة الله ستبدأ المباراة، علي بن ناصر الحكم التونسي والقرعة بين جمال عبد الحميد كابتن منتخب مصر ورابح ماجر كابتن منتخب الجزائر، قبل تحديد الفريق صاحب لعب ركلة البداية، جمال قال أن الفريق الجزائري هو الضيف و بالتالي هو من سيلعب، ورحب بذلك رابح وكذلك الحكم.
ركلة البداية يقطعها أحمد رمزي، نقلات مستمرة وسط حماس غير معتاد، كرة ضالة من تسديدة إسماعيل يوسف تصل لأحمد الكأس في اليسار، يرفعها عرضية، يرتمي لها حسام حسن بكل جسده و غير عابئ بإصطدام العربي حارس الجزائر ولا بدفاع الجزائر، اهتزت الشباك الجزائرية.
باقي المباراة عبارة عن ركل وضرب بين الفريقين، رقابة ثنائية أو ثلاثية لرابح ماجر من قبل إبراهيم حسن ملك التغطية، أو ربيع ياسين وهشام يكن، ضرب في منطقة الجزاء بين بلومي ومن مغاريا لحسام حسن، في أول ضربة ركنية للجزائر، جمال عبد الحميد في ارتقاء رهيب للكرة وصل طوله في الهواء لـ 2.85 متراً يخرج الكرة قبل رأس جمال مناد، أحمد الكاس يصنع ثنائية مبهرة مع ربيع ياسين في الواجب الدفاعي والهجومي، هشام عبد الرسول نجم التصفيات الأل و إبراهيم حسن لا يستطيع أحد إيقافهما، ماجر ومناد والوزان ثلاثي الجزائر الأمامي استسلم لهشام يكن وهاني رمزي، الشوط الثاني شهد خروج العربي ونزول عثماني كحارس مرمي، إعصار جزائري ودفاع مستميت من المنتخب، ماجر يرسل عرضية من الجهة اليمني ويفوتها ثلاث لاعبين من الجزائر دفعة واحدة، والإستاد كله في صوت واحد " يااااااااااارب "، إنفراد من الوزان، وشوبير يستأسد في الكرة و يخرجها، يخرج أحمد الكاس وينزل المعلم بدر رجب، يستحوذ الفريق مجدداً علي الكرة بفضل تغيير الجوهري، "روسية” مجددا من مدافعي الجزائر لحسام حسن، والدماء تنزف من رأسه ويكمل المباراة بضمادة، إنفراد ضائع من أحمد رمزي وتلاه تسديدة قوية من هشام عبد الرسول، وفي أخر دقيقة بالمباراة، حسام حسن ينفرد ولم يصدق نفسه فأعادها لجمال عبد الحميد وسددها قوية وتصدي لها عثماني، في أخر دقيقتين بالوقت الإضافي، انفراد كامل لجمال مناد ينقذه أحمد شوبير وكاد أن يكلفه إحدى عينيه.
يصفر علي بن ناصر أخيرا، فرحة عارمة في استاد القاهرة و في كل أرجاء مصر، كالعادة كرة القدم أنستنا هموم الديون وقتها والغلاء ومستوي المعيشة توترات المنطقة العربية وحرب العراق و إيران، لا وقت سوي للفرحة فقط دون سواها، مصر تتأهل لكأس العالم بعد غياب 56 عام، فرحة فرحة فرحة.
مشهد تسعيني جميل، الكل يبادر بشراء ألبوم بانيني لنجمع فيه صور منتخبنا المصري المشارك بالمونديال، بغض النظر عن أنها الصفحة الأخيرة بالألبوم وبعض الصور ناقصة، لا يهم، سنطلق الألبوم المصري المعادل له، ألبوم” شديد ".
رحلات عدة تطلقها شركات السياحة صوب إيطاليا من أجل مشاهدة مصر في المونديال، فرصة العمر للظهور في المحفل الدولي مجددا، وربما نستطيع كسر التأشيرة.
الجوهري ولأول مرة حول الهتاف من اللاعب للمدرب.
نعود إلي أجواء الألفية الثالثة، إلي الجيل الحالي من منتخب مصر، منتخب ليس بقوة منتخب الساجدين مع المعلم سابقاً، سأكتفي بأن أقول لك أن منتخب 1990 لم يكن بقوة منتخب 1974 -1978 أو منتخب 1982 – 1986 علي الإطلاق، لم يتأهل حسن شحاتة، محمود الخطيب، مصطفي عبده، إبراهيم يوسف، فاروق جعفر، حسن حمدي، مختار مختار، عماد سليمان، علي أبو جريشة، محمد أبو تريكة، حازم إمام، حسني عبد ربه، وائل جمعة.. إلخ إلخ إلي كأس العالم.
تأهل فقط صابر عيد، طارق سليمان، بدر رجب، هشام عبد الرسول، أحمد رمزي، خالد مصطفي، هشام يكن، مجدي عبد الغني، حسام وإبراهيم حسن.. إلخ إلخ إلي تلك الكأس.
منتخب لعب بروح الجنود في المعركة، وتلاشي كل الأخطاء و لم يركب قطار العقدة، أو بالأحرى لم يجلس ممددا أمام قطار الأمل مدخنا سجائر الخيبة و لم يكتف بعض أصابع الندم.
منتخب أفشل مخطط عقدة الجزائر وأفسد نغمة الفريق "أ" و "ب"، نجومه في الأغلب خارج الأقطاب.
هل سنري يوماً صورة كهذه؟
هل سنري يوما ونحتفظ بجريدة الأهرام بعدد تأهل منتخب مصر إلي مونديال روسيا 2018.
ر
هل سيحين الوقت لمهيب عبد الهادي ونراه يغطي لحظة بلحظة كواليس تأهلنا لكأس العالم مثل تلك الجريدة، هل ستسري تعويذة بدلة حازم الهواري، أم أن التعويذة تسري علي كأس الأمم فقط!
هل سيحين الوقت ونشتري تذكرة لمنتخب مصر في موسكو 2018 كما فعلنا في باليرمو 1990، ونحتفظ بقميص المنتخب كذكري، ونسعى وراء ألبومات بانيني ولو حتى طبع الـ PDFS.
أتمني شخصياً وأنا علي قيد الحياة، أن أري والدتي تتمتم بالدعاء لمنتخبنا وهو يلعب في موسكو بأمر الله، مثلما بالتأكيد فعلت جدتي وجداتكم وأمهاتكم لمن عاصروا منتخبنا في باليرمو وتمتموا بدعاء "اسم النبي حارصكم و صاينكم" لطلبة الأكاديمية البحرية في إيطاليا و علم مصر يرفرف في المدرجات و العدالة تنزل علي إستاد باليرمو "رحمة الله علي محمود بكر".
دع روح كرة القدم تتلقفك، الأحمر والأبيض والأسود والنسر الذهبي، ولنعد بانتصاراً من ديار الكونجو ولو في معاقل لومباشي، ونبدأ خطة الذهاب للأميرة العالمية، ولينتشر الفولكلور المصري و يغزو أراضي موسكو الحمراء.