"روقة" -الذي لم أعرف اسمه الحقيقي حتى هذه اللحظة- كان رجلا مسنا يأتي للمقهى كل ليلة ويشاهد مباريات كرة القدم أو يلعب الطاولة، وكان يتمتع بخفة دم كبيرة، ولسان سليط يصل كثيرا إلى حد البذاءة خلال تعليقه على المباريات أو بمناكفة رواد المقهى.
مع الوقت اعتدت وأصدقائي على وجود "روقة" في المقهى بل كنا دائما ما نتداول "إيفهاته" و"بذاءاته" فيما بينا، ولكننا نخشى التواصل معه خوفا فقط من لسانه السليط رغم كونه أحد أسباب ترددنا على المقهى.
كان "روقة" يتصرف مع رواد المقهى حتى من يراهم للمرة الاولى بجرأة كبيرة قد تؤدي لتعرض شخص عادي لنيل علقة ساخنة مثلا، ولكن من يجرأ على التطاول على رجل كبير السن خصوصا أن حتى ضحاياه يضحكون أحيانا بسبب سرعة بديهته.
وبعد مرور سنوات طويلة نسيت هذه الشخصية تماما وكان السبب الوحيد في بقائها في ذاكرتي هو معلقنا الراحل محمود بكر.
في رأيي كان بكر خصوصا في سنواته الـ10 الأخيرة معلقا من طراز خاص .. كان يقول أشياء ويفعل أشياء تعد "جرائم حرب" في عالم التعليق الحديث، ولكنه يعرف أن الجمهور وحتى إدارات القنوات التي يعلق عبر شاشاتها سيغفرون له كل شيء لأنه محمود بكر، ولا أحد ينتظر منه التزاما بقواعد.
جمهور بكر كان يشبهني ورفاقي أيام المقهى البلدي .. كان يتابع بكر دون انتظار أن يقول التشكيل الصحيح خصوصا أسماء اللاعبين الأجانب، وكان الجمهور يعرف أن بكر سيدس العشرات من التعليقات الجانبية خلال المباراة، وسيصب بعض اللعنات على "البرجاوي" وعلى من أرسلوه "لأعلى نقطة في الاستاد" وعلى الملاعين الذين يتعمدون تجاهل كبار السن حينما يقومون بأعمال الحفر في "محطة قطر إسكندرية".
في المقابل كانت تعليقات بكر الفكاهية و"قفشاته" وحتى "قلشاته" تضفي متعة وإثارة على الكثير من المباريات المحلية المملة لدرجة أن يضبط الواحد منا نفسه يقوم بتغيير القناة ليسمع تعليقه.
كان تفسيري الوحيد لهذه الظاهرة أن بكر لم يكن مجرد المعلق الكروي بل كان يشبه "روقة" ويشبه هذا الجد أو ذلك العم أو الخال من كبار السن في أي أسرة مصرية ممن تحلو المشاهدة معهم في المنزل أو على المقهى.
كان الرجل أقرب لأحد أقاربك الذي يعشق أن يثبت لك صحة وجهة نظره، خصوصا عندما يتحقق السيناريو الذي توقعه للمباراة على طريقة "وهاهاهاهااااي لسه بقول لحضرااااااااتكم".
والأهم أن الرجل كان يتفوق على الكثيرين في قراءة المباريات وعلى طريقة "وبكده يبقى الأمور وضحت"، فهو صديق "فاهم كورة" بحكم معاصرته لـ"الضيظوي والفناجيلي ومصطفى رياض"، بل يكفيه معرفته الفارق بين "شحتة" و"شحتة الإسكندراني".
كان يقول لنا في رسالة ضمنية : استمعوا لتحليلي للمباراة فعلى الأقل لعبت مع جيل العظماء وكنت واحدا منهم ولست عضوا في ستوديو التحليل الذي لا يتميز أفراده إلا بطاقم من "الكرافتات الشيك" والكليشيهات سابقة التجهيز.
بكر المنتمي لجيل الشيوخ من رواد لاعبي كرة القدم في مصر والذي عاش معظم سنوات عمره بين جنبات النادي الأوليمبي كلاعب وكمدرب أو حتى كضابط جيش أعطى من عمره للوطن، كان يعرف أن لديه رصيد يسمح له بالنقد والتعبير عما تضيق به صدور الجماهير على طريقة "هم قالولي أقول الكاكولا" أو "معلش نقلنا متاخر عشان الإعلانات دي هي اللي بتقبضنا" مبديا اعتراضه بذكاء وخبث يذكرني بعم "روقة".
أعترف أيضا أنني لم أحب تعليقات بكر السياسية خصوصا في الفترة الأخيرة، وهو ما أبعدني عن المشاهدة قليلا، ولكني ضبطت نفسي أعود لسماعه مجددا، تماما كما نختلف ونتصالح مع أفراد عائلاتنا من كبار السن المنتمين لجيل مختلف تماما.
أصابتني غصة شديدة عند سماع خبر وفاة عمنا "محمود بكر" تقترب من درجة حزني الصامت على رحيل العظيم حمادة إمام الذي فشلت في الكتابة عنه .. فمن اليوم لن يكون هناك المزيد من "هاهاهاهاهاهااااي" أو "وهوباااااااااا مين يقابل".
باختصار هو شعور حزين يعرفه كل أبناء جيلنا من مواليد السبعينات والثمانينات .. وفاة هؤلاء العمالقة الذين صاغوا علاقتنا بهوايتنا المفضلة ورحلوا للأبد، ربما لنتذكر مرة أخرى أن سنوات الطفولة رحلت دون رجعة.
البقاء لله.
شاركوني بذكرياتكم عن محمود بكر على تويتر Follow @nasry