كتب : أحمد مصطفى
FilGoal.com يمنح زواره تجربة مميزة ويضع بين أيديهم سلسلة حلقات لأهم النجوم.. وبعد زلاتان إبراهيموفيتش، ثم الساحر بيرلو والقائد جيرارد.. و"الاستاذ" فيرجسون.. حان الوقت لمعرفة أسرار وخبايا أسطورة الملك رقم 10.
كل ما سيتم ذكره الآن، نُشر على لسان مارادونا في كتاب "أنا الدييجو".
=====================
حانت مواجهة إنجلترا، 22 يونيو 1986، يوم آخر لا ينسى من حياتي أبدا، وهدفان بقيا في الذاكرة.
عن الهدف الثاني أتذكر الكثير من الأمور، كلما تخطيت لاعبا إنجليزيا كان يظهر إنجليزي آخر.
المدرب بيلاردو قرر منحي يوم راحة كامل في اليوم الذي يسبق المباراة، أراد أن أتحرر تماما في الملعب.
في الحقيقة كان هذا الهدف هو هدف الأحلام، منذ كنت طفلا في قرية فيوريتو كنت أحلم بتسجيل هدف كهذا، لكنه جاء في أفضل مناسبة ممكنة، في كأس العالم، وبقميص الأرجنتين، وفي مباراة نهائية.
- انتقام سياسي أمام الإنجليز:
نعم، مباراة إنجلترا كانت نهائيا بالنسبة لنا، الفوز على إنجلترا ليس مجرد فوز على منتخب آخر.
قبل المباراة انتشر الكلام حول عدم ضرورة خلط الرياضة بالسياسة، في ظل الصراع القائم بين الأرجنتين وبريطانيا على جزر فوكلاند، لكن هذا كان كذبا.
مات الكثير من الأرجنتينيين في هذا الصراع، لذا الفوز على إنجلترا كان انتقاما، استردادا لجزء من جزر فوكلاند، لم نكن نفكر سوى في ذلك، من تحدث عن فصل السياسة عن تلك المباراة كاذب..كاذب كبير.
كانت أكبر من مجرد مباراة لكرة القدم، والانتصار كان أكثر من مجرد الإطاحة بالإنجليز من ربع نهائي المونديال.
بطريقة ما تخيلنا أن كل لاعب إنجليزي له ذنب في قتل الأرجنتينيين وسلب الأرض ومعاناة الشعب.
يبدو جنونا ما أقول، لكن هكذا لعبنا المباراة، كنا ندافع عن علمنا وننتقم للموتى وللأحياء، لذا قيمة الهدف كانت أكبر مما يظن الناس، قيمة الهدفين في الواقع، كل منهما كان له متعة خاصة.
- قصة هدف القرن:
كلما شاهدت إعادة الهدف الثاني أشعر بأنه كان حلما، كذبة، سرابا..ليس لأنني قمت بذلك، لكن لأن هدفا كهذا لا يمكن أن يكون حقيقيا، يمكنك أن تتخيله في ذهنك، لكن أن يحدث في الواقع، أمر لا يصدق، إنه مثل الخرافات.
سأحكي لكم قصة..
وأنا أراوغ اللاعبين الإنجليز قبل الهدف تذكرت أخي.
قبل أقل من 6 أعوام على هذا الهدف، بالتحديد في 13 مايو 1981 خلال مباراة ودية بين الأرجنتين وإنجلترا ايضا، على ملعب ويمبلي، كنت على وشك تسجيل نفس الهدف، كانت هجمة مشابهة للغاية، وبعد فاصل من المراوغات انقض عليّ الحارس فخرجت التسديدة بعيدا عن المرمى.
عاتبني شقيقي آنذاك، قال لي أن الحل الأفضل كان مراوغة الحارس وعدم الاستعجال في التسديد.
كان أخي في السابعة من عمره، لكنه صاحب نظرة ثاقبة، عملت بنصيحته امام إنجلترا ايضا في 86 على ملعب أزتيكا.
كانت خطتي أن أتوغل في العمق، ومن ثم سأمرر الى فالدانو المنطلق من اليسار.
كنت أظن أن المدافع الأخير فينويك سيتقدم وينقض عليّ، وحينها كنت سأعطي الكرة لفالدانو، لكنه انتظر في مكانه حتى اللحظة الأخيرة، لذا قررت مواجهته، وراوغته، لكن الكرة طالت، وقبل أن يحبط الحارس شيلتون الهجمة، راوغته على يمينه كما نصحني أخي، وسجلت.
كانت نسخة مكررة من هجمة ويمبلي، والحارس كان على نفس المسافة، لكن القرار الأخير كان مختلفا..الرب ساعدني..جعلني أتذكر ويمبلي وأخي.
مدافع إنجلترا الأشقر والضخم بوتشر كان يلاحقني ووجه لي ضربة عنيفة، لكنني لم أهتم ولم أتأثر، صمدت لتسجيل هدف حياتي.
- خلاف مع فالدانو..بسبب الهدف!!
عندما عدنا لغرفة الملابس فالدانو كان يريد قتلي، كان ينظر إلي بغضب.
تعجبت: "سجلت هذا الهدف وأنت تنظر لي بهذا الغل؟ هذه إهانة لي".
جاء زميلنا هكتور إنريكي أيضا وعاتبني لماذا لم أمرر لفالدانو..إبن العاهرة..كان الهدف مذهلا.
أردت طبع لقطات هذا الهدف في صور مجمعة لأعلقها على حائط غرفتي، بجانب صورة طفلتي دالميتا، لم تكن شقيقتها جيانينا قد وصلت للحياة بعد.
- هدفي باليد أكثر روعة!!
يقولون أن هذا الهدف هو الأفضل في مسيرتي، لكنني شعرت بسعادة أكبر بالهدف الآخر الذي سجلته بيدي..الهدف الأول.
الآن يمكنني شرح القصة الحقيقية لهذا الهدف، في السابق لم أتمكن من ذلك، اكتفيت بوصفه بـ"يد الرب"، لكنها كانت يد مارادونا، كان بمثابة سرقة محفظة الإنجليز.
لم يلحظ أحد شيئا، قفزت في الهواء بكل ما أوتيت من قوة، حتى أنا لا أعرف كيف وصلت إلى هذا الارتفاع.
مددت قبضة يدي اليسرى ورأسي في الخلف، حتى الحارس بيتر شيلتون لم يعرف أنني لمست الكرة بيدي.
المدافع فينويك كان أول من طالب بلمسة يد، ليس لأنه شاهدني وأنا أسدد بيدي، هو لم يشاهد ذلك، لكنه لم يصدق أنني تفوقت في الصراع الهوائي مع شيلتون.
بعد أن تجاوزت الكرة المرمى، شاهدت حكم الراية يركض إلى منتصف الملعب ليتحدث مع الحكم الرئيسي، لكنني واصلت الاحتفال.
توجهت إلى مكان المقصورة التي يجلس بها أبي وحماي، كنت أصرخ من الفرحة، أبي كان يحتفل بجنون، كان يظن أنني سجلت الهدف برأسي.
لحسن الحظ لم ينتبه الحكم للمسة اليد، عندما ركضت للاحتفال اختلست نظرة إلى الحكم لمعرفة رد فعله.
فالدانو كان يطالبني بالصمت وعدم الاحتفال، وضع يده على فمي، كان أشبه بممرضة في مستشفى.
الإنجليز كانوا يعترضون..لا يهم..كان هدفا رائعا، من الممكن أن أبكي في الكنيسة بسببه في وقت لاحق.
سألني صحفي من (بي بي سي) البريطانية عن هذا الهدف بعد عام، قلت "الهدف شرعي وصحيح تماما، لأن الحكم احتسبه، لا يمكنني أن أشكك في نزاهة الحكم".
بعد العودة لإيطاليا زارني سيلفيو بيولا، كان هدافا تاريخيا من حقبة الثلاثينيات، في إيطاليا كانوا يتهمونني بعدم الشرف والغش، فقال لي بيولا "لا تنشغل بهم، هم يعرفون أنني سجلت هدفا بيدي مع منتخب إيطاليا أمام إنجلترا أيضا، واحتفلوا به".
- رعب من بلجيكا المسكينة:
بلجيكا لم يكن لها حول ولا قوة، مسكينة، صعودها لنصف النهائي كان طفرة مفاجأة، لم نجد صعوبة في الفوز عليهم، سجلت هدفي المباراة.. ورغم ذلك شعرت بالرعب.
فكرت في أمي، يا للسعادة التي تشعر بها الآن، الجميع يتحدث باطمئنان عن الفوز، لكنني كنت خائفا جدا من الاسترخاء، أمام بلجيكا سجلت هدفين، لكن كنت قلقا للغاية، أردت تسجيل المزيد تحسبا لأي مفاجأة منهم.
- نهائي الأحلام:
وصلنا النهائي، لم يكن أحد في العالم يتوقع ذلك قبل البطولة، نحن فقط كلاعبين وجهاز فني كنا نؤمن بذلك..كنا ننتظر مساعدة الرب.
الرب اختار لنا مواجهة ألمانيا.
لا أعرف ان كانت تلك المرة الأولى في التاريخ، لكن خلال البطولة كان المنتخبان يخرجان من نفق واحد الى الملعب، يقفان في صفين متوازيين، نحن كنا نصرخ في حماس، نضرب بعضنا على الصدور، كنا نرى كيف يشعر المنافسين بالرعب قبل المباراة، لكن امام الألمان كان الوضع مختلفا.
قلت لزميلي تاتا براون في النفق المؤدي للملعب "الألمان لا يخيفهم شيء".
كان لوثر ماتيوس مكلفا بمراقبتي، لكن لم تكن رقابة واحد ضد واحد، كل مدرب أو لاعب فكر في مراقبتي بشكل فردي هو شخص أحمق، لكن ماتيوس كان ظاهرة، يبرع في كل شيء.
كنت أبحث عن الهدف، لكن فوق ذلك كنت أبحث عن الفوز بالكأس.
بدأنا بتسجيل هدفين رائعين، تاتا براون سجل أولا، كان يستحق ذلك لأنه عوّض باساريلا، ولعب أفضل من الجميع، والثاني سجله فالدانو.
تعادلت ألمانيا بهدفين قبل 10 دقائق على النهاية، لكنني لم أشعر بالخوف.
نظرت الى ساقي اللاعب الألماني هانز بريجل، وجدتهما ترتجفان، عرفت أننا سننتصر.
كنت أصيح في الملعب بعد التعادل، قلت لبوروتشاجا "هيا، إنهم ميتون الآن، لا يمكنهم الجري".
ركض بوروتشاجا من خلف بريجل المنهك، مررت له الكرة، انطلق بها وسجل هدف التتويج.
صرخت كما لم أصرخ في حياتي، قفزنا على أجساد بعضنا وصنعنا جبلا كبيرا، تيقنا أننا أبطال العالم رغم تبقي 6 دقائق.
بيلاردو كان يصرخ "سجل يا مارادونا..سجل يا فالدانو..توقفوا عن الاحتفال".
أطلق الحكم البرازيلي أربي فيليو صافرته، لم أستمع في أزتيكا سوى لصرخات الأرجنتينيين، ساد الصمت بين المكسيكيون، كانوا يشجعون ألمانيا.
- فرحة ممزوجة بالغضب:
انهمرت الدموع مني، كيف يمكن منع نفسي من البكاء؟ كانت أهم لحظة في مسيرتي..وبجانب فرحتنا كنا نوجه الشتائم لكل من هاجمنا وشكك في قدراتنا ولم يؤمن بنا، كنا نشعر بالغضب ايضا.
احتضنت بيلاردو، وقلت له هيا اصرخ في وجه كل من لم يقدر معاناتنا، لكنه كان يبكي، كان قد تذكر معلمه أوسفالدو زوبلديا في هذه اللحظة، أبوه الروحي الذي توفي قبل البطولة.
الاحتفالات في غرف الملابس لا يمكن وصفها، احتضنا بعضنا جميعا، وفينا بالوعد الذي قطعناه على أنفسنا، كنا أول من وصل الى المكسيك وآخر من غادرها.
ألخص أيامي في المكسيك بأن "الرب كان معي".
لا يمكن اعتبار أن كأس العالم ملكا لي وحدي، كان جائزة لنا جميعا، كان انتصارا رائعا للكرة الأرجنتينية، من المحزن أنه لم يتكرر حتى يومنا هذا.
- مونديال لم يساعد الفقراء:
لكن من المهم أن نعرف أن هذا الانتصار، وإن كان أسعد الفقراء، لكنه لم يتسبب في خفض سعر الخبز مثلا، كم كنا نتمنى أن تحل كرة القدم مشاكل الناس.
ظهرت في شرفة القصر الرئاسي في الأرجنتين برفقة راؤول ألفونسين أول رئيس ديمقراطي في البلاد، شعرت بأنني رئيسا، الجميع يهتف بإسمي، تذكرت كيف كان يتشكك بنا كثيرون ويطالبون برحيل بيلاردو قبل أيام معدودة، الآن نحن الملوك.
في شرفة القصر راجعت شريط ذكرياتي، كيف خرجت من قرية فيوريتو لأصبح بطلا للعالم.
توجهت إلى منزل أمي، وقد أصبح مزارا سياحيا في بوينوس أيرس، المثير في الأمر أن المنزل لا يزال مقصدا للزوار حتى اليوم، أطفال ونساء ومسنين، كانوا يبكون لأنهم يريدون الدخول ومصافحتي.
سمحت يوما بدخول طفلين للمنزل ولعبت معهما الكرة، لم يصدقا أنفسهما، لكن بداخلي شعرت بأسف شديد، لم أحل مشاكل الفقراء، كل ما فعلته هو الفوز بمونديال.