فوز اليابان دفعني لإجراء مقارنة مريرة.
فاليابان كما يعرف الجميع تعرضت إلى زلزال مدمر من أكبر عشر زلازل في تاريخ البشرية في مارس الماضي، تبعته موجات مائية عملاقة "تسونامي" جرفت كل شئ في طريقها، ثم تعرضت مفاعلاتها النووية للعطب والتسريبات الإشعاعية المدمرة معيدة إلى الأذهان كارثة تعرضها للقنابل الذرية في الحرب العالمية الثانية.
هذه الآثار المدمرة مازالت اليابان تعاني منها حتى هذه اللحظة ومازالت مشكلة المفاعلات تحديدا مستمرة، فهل المطلوب أن يفوز منتخب اليابان للسيدات بكأس العالم؟ ... بل هل المطلوب أن تظهر لاعباته بـ"صورة مشرفة" من الأصل؟
اللاعبات اليابانيات اللواتي تم اختيارهن من أصل 25 ألف لاعبة فقط يمارسن اللعبة في بلدهن، وهو عدد ضئيل بالمقارنة مع ألمانيا مثلا- بطلة العالم السابقة – والتي يوجد لديها مليون لاعبة مسجلة في الاتحاد، وصعد المنتخب الياباني فأطاح بالألمانيات على أرضهن وبين جماهيرهن ثم أطاح بالسويد.
وفي النهائي أمام الولايات المتحدة المرشح الأول للفوز والذي لعب مع اليابان في 25 مباراة نسائية من قبل لم تفز اليابانيات بأي منها، تقدمت الأمريكيات مرتين، وفي كل مرة تتعادل اليابانيات ليصعدن منصات التتويج بفضل ركلات الترجيح.
إصرار من الصلب، وعزيمة لا تلين، في توقيت تحتاج فيه بلدهن إلى كل ذرة أمل في النفوس، اختفت حجج توقف المسابقات وضعف الإعداد وغياب اللياقة وهي حجج نحفظها عن ظهر قلب في مصر بفضل نجومنا المزعومين.
ولن أجد مقولة تلخص انجاز لاعبات اليابان سوى ما قالته عنهن مدربة الولايات المتحدة التي خسرت أمامهن في النهائي بقولها "خسرنا أمام فريق عظيم بحق، ورغم أن أمنية حياتي كانت الفوز بكأس العالم، لو كان هناك فريق وحيد أتمنى أن يحصل على هذا الكأس غير بلدي فهو بالتأكيد اليابان، إنهم يستحقونه بالفعل".
والآن دعني عزيزي القارئ أن أنزل بك من سحاب الإنجاز الرياضي وسمو الأخلاق بين المتنافسات إلى مستنقع نميزه جميعا بسهولة بحكم رائحته التي تزكم الأنوف.
مصر بلدنا مرت بثورة عظيمة، سعت ومازالت تسعى لإسقاط نظام فاسد امتص دمائها، وتسببت عملية إزالته في زلزال سياسي واجتماعي نعيشه جميعا مما يضعنا في موقف مشابه لما تعرضت له اليابان، لكن مع فارق بسيط .. فماذا كان المشهد الرياضي في مصر؟
مسئولو الأندية الهابطة في مسابقة الدوري برروا الأسبوع الماضي فشل أنديتهم في البقاء بتوقف النشاط الكروي خلال الثورة، بل وصل الحال ببعضهم لترديد مقولات من نوعية "ضحينا من أجل مصر وشاركنا في الدوري بعد استئنافه لإنقاذ السياحة".
خلال 18 يوما من الثورة اختفى من اعتدنا تسميتهم بالـ"نجوم" كأنهم فص ملح وداب ولم يظهر منهم سوى نفر قليل أعلنوا تأييدهم للرئيس السابق، ثم لحقوا بزملائهم حتى رحل حسني إلى شرم.
وبعد الثورة قام الإعلام الرياضي خصوصا التلفزيوني وبعض المسئوليين الرياضيين بحملة مكثفة تساند فكرة عودة الدوري بدعوى مساندة السياحة وأن استمرار الدوري دليل على الاستقرار وأن مصر هي بلد الأمن والأمان وكأن مثلا مسئولي السفارات الأجنبية في مصر سيهرعون إلى دعوة مواطنيهم للقدوم إلى مصر لمشاهدة مباريات المقاصة ووادي دجلة أوربما لاقتناعهم بحملة "اطمن ..... وابقي طمنا وحياة أبوك" الشهيرة.
وبالفعل تم استئناف الدوري لتنجح حملة "السياحة أولا"، لكن ليس في تحقيق رقم قياسي في استقبال سائحين أجانب، بل في الوصول إلى رقم قياسي في نسبة استقدام حكام أجانب، تعرض بعضهم للضرب، وهو ضرب غير مضر بالسياحة (بالظبط زي ضرب الحبيب).
عودة الدوري كانت مخاطرة كبيرة استفاد منها بلا الشك اللاعبون والمدربون والإداريون والإعلاميون والبرامج التلفزيونية وحتى إدارات الأندية .. تخيلوا مثلا لو تم إلغاء الدوري! .. كيف كانت الأندية ستدفع رواتب اللاعبين بدون نقل تلفزيوني أو إعلانات أو إيرادات تذاكر إلخ؟ مع ملاحظة أن بعض اللاعبين تتراوح أجورهم الشهرية بين 20 و80 ألف جنيه شهريا وهو راتب يزيد عن الحد الأدنى للأجور الذي تطالب به الثورة بـ60 ضعفا!
وساهمت قوات الجيش والشرطة في تأمين عودة نشاط كرة القدم إلى مصر رغم حاجة كل شبر في الوطن إلى جهودهما .. فهل تم تقدير ذلك الجهد بواسطة لاعبو الكرة وأجهزتهم الفنية المسئولية؟ .. على العكس تماما ساهمت الأجهزة الفنية والإدارية في تهييج الجماهير وافتعال نظرية المؤامرة واتهام التحكيم فتم اقتحام الملاعب أكثر من مرة ووقعت اشتباكات بين جماهير أكثر من نادي وقوات الشرطة واعتداءات على أتوبيسات اللاعبين.
وكالعادة كانت العقوبات هزيلة في نفس مستوى هزال اتحاد الكرة الذي تحول مسئولوه من ترديد مقولة " أستاذ جمال وأستاذ علاء مسابوناش لحظة" إلى مقولة "نناشد المجلس العسكري".
وكانت الطامة الكبرى في مباراة الأهلي والزمالك التي أقيمت رغم اندلاع اشتباكات في القاهرة وبدلا من أن يتسم سلوك اللاعبين والأجهزة الفنية بالانضباط تقديرا لحالة الوطن شاهدنا انفلاتا سلوكيا ينافس الانفلات الأمني في شوارعنا، وشاهدنا لاعبين يثيرون الجمهور في المدرجات ومدير فني منفلت أخلاقيا وآخر منفلت فنيا، ثم حدثت مشاجرات عند غرف خلع الملابس لو وقعت في الشارع أمام أعين الشرطة العسكرية لتم تحويل المتهمين فيها إلى محاكمات عسكرية فورية، لكن بالطبع نجوم الكرة فوق القانون قبل وبعد الثورة.
المدهش أن ربما يكون الهدف الوحيد من ممارسة اللعبة هو خدمة المنتخبات الوطنية باعتبارها الوسيلة الوحيدة لرفع اسم مصر في مجال كرة القدم، وذلك في توقيت يسعى فيه الجميع لخدمة البلد ومحاولة دفعها للأمام، فجاء الخروج التاريخي من تصفيات كأس الأمم الإفريقية بعد الفشل في الفوز على جنوب إفريقيا، وبالطبع كان المبرر جاهز وهو الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد، رغم أنه في مثل هذا التوقيت من كل عام كان الجميع يشكو (سبحان الله) من ضغط وتوالي المباريات!
أما الفضيحة الحقيقية فكانت منع الأهلي والزمالك لخمسة من لاعبيهما الدوليين من الانضمام إلى منتخب مصر للناشئين المتوجه إلى بطولة كأس العالم في كولومبيا، وذلك لأن مصلحة القطبين وصراعهما المثير للاشمئزاز بكل ما يحمله من خروج عن الروح الرياضية هو أمر له أولوية قصوى تتخطى أهمية تمثيل بلد وتحية علمها في محفل دولي بحجم المونديال.
لا أدري لماذا طافت في ذهني كل هذه الأفكار عندما شاهدت بطلات اليابان يصعدن منصة التتويج .. في اليابان أزمة تدفع فريقا لإظهار معدنه الحقيقي والقتال حتى الوصول إلى القمة، وفي مصر مناخ رياضي فاسد دفعته الأزمة إلى إظهار معدنه الحقيقي أيضا .. متى نربي "رجالا" يملكون نصف وطنية أو إصرار أو عزيمة "سيدات" اليابان؟
تابعوني على تويتر :
أو على فيسبوك: